تُبْهِرُ الْعُقُولَ وَتَرُدُّ الْمُكَذِّبَ إِلَى التَّصْدِيقِ وَالشَّاكَّ إِلَى الْيَقِينِ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ وَعَرَفُوا أَنَّهُ مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى عِلْمًا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِلْمًا مُضَافًا إِلَى سَائِرِ الْآيَاتِ أَقَرُّوا لَهُ بِالصِّدْقِ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَأَظْهَرُوا التَّوْبَةَ وَأَعْطَوُا الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لَا يَعُودُوا إِلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَأَنْ يَقُومُوا بِالتَّوْرَاةِ فَكَانَ هَذَا عَهْدًا مُوَثَّقًا جَعَلُوهُ لِلَّهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ لِلَّهِ مِيثَاقَيْنِ، فَالْأَوَّلُ: حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَلْزَمَ النَّاسَ مُتَابَعَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرَادُ هَاهُنَا هُوَ هَذَا الْعَهْدُ. هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. الثَّانِي: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّمَا قَالَ: (مِيثَاقَكُمْ) وَلَمْ يَقُلْ مَوَاثِيقَكُمْ لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَرَادَ بِهِ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْ أَخَذَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غَافِرٍ: ٦٧] أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ شَيْئًا وَاحِدًا أُخِذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَا أُخِذَ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا جَرَمَ كَانَ كُلُّهُ مِيثَاقًا وَاحِدًا وَلَوْ قِيلَ مَوَاثِيقُكُمْ لَأَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَوَاثِيقُ أُخِذَتْ عَلَيْهِمْ لَا مِيثَاقٌ وَاحِدٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ فَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ [الْأَعْرَافِ: ١٧١] وَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَفَعْنا وَاوُ عَطْفٍ عَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ كَانَ مُتَقَدِّمًا فَلَمَّا نَقَضُوهُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ قَبُولِ الْكِتَابِ رُفِعَ عَلَيْهِمُ الْجَبَلُ، وَأَمَّا عَلَى تَفْسِيرِ أَبِي مُسْلِمٍ فَلَيْسَتْ وَاوَ عَطْفٍ وَلَكِنَّهَا وَاوُ الْحَالِ كَمَا يُقَالُ: فَعَلْتُ ذَلِكَ وَالزَّمَانُ زَمَانٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ عِنْدَ رَفْعِنَا الطُّورَ فَوْقَكُمْ. الثَّانِي: قِيلَ: إِنَّ الطُّورَ كُلُّ جَبَلٍ قَالَ الْعَجَّاجُ:
دَانَى جَنَاحَيْهِ مِنَ الطُّورِ فَمَرْ ... تَقَضِّيَ الْبَازِي إِذَا الْبَازِي كَسَرْ
أَمَّا الْخَلِيلُ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: إِنَّ الطُّورَ اسم جبل معلوم وهذا هو الأقرب لِأَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ فِيهِ تَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى جَبَلٍ مَعْهُودٍ عُرِفَ كَوْنُهُ مُسَمًّى بِهَذَا الِاسْمِ، وَالْمَعْهُودُ هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي وَقَعَتِ الْمُنَاجَاةُ عَلَيْهِ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْقُلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى حَيْثُ هُمْ فَيَجْعَلَهُ فَوْقَهُمْ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا مِنْهُمْ لِأَنَّ الْقَادِرَ أَنْ يُسْكِنَ الْجَبَلَ فِي الْهَوَاءِ قَادِرٌ أَيْضًا عَلَى أَنْ يَقْلَعَهُ وَيَنْقُلَهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَكَانِ الْبَعِيدِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَ تَعَالَى جَبَلًا مِنْ جِبَالِ فِلَسْطِينَ فَانْقَلَعَ مِنْ أَصْلِهِ حَتَّى قَامَ فَوْقَهُمْ كَالظُّلَّةِ وَكَانَ الْمُعَسْكَرُ فَرْسَخًا فِي فَرْسَخٍ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَنِ اقْبَلُوا التَّوْرَاةَ وَإِلَّا رَمَيْتُ الْجَبَلَ عَلَيْكُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنْ لَا مَهْرَبَ قَبِلُوا التَّوْرَاةَ بِمَا فِيهَا وَسَجَدُوا لِلْفَزَعِ سُجُودًا يُلَاحِظُونَ الْجَبَلَ، فَلِذَلِكَ سَجَدَتِ الْيَهُودُ عَلَى أَنْصَافِ وُجُوهِهِمْ. الثَّالِثُ: مِنَ الْمَلَاحِدَةِ مَنْ أَنْكَرَ إِمْكَانَ وُقُوفِ الثَّقِيلِ فِي الْهَوَاءِ بِلَا عِمَادٍ وَأَمَّا الْأَرْضُ فَقَالُوا إِنَّمَا وَقَفَتْ لِأَنَّهَا بِطَبْعِهَا طَالِبَةٌ لِلْمَرْكَزِ فَلَا جَرَمَ وَقَفَتْ فِي الْمَرْكَزِ، وَدَلِيلُنَا عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ وَوُقُوفُ الثَّقِيلِ فِي الْهَوَاءِ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَادِرًا عَلَيْهِ وَتَمَامُ تَقْرِيرِ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ مَعْلُومٌ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ. الرَّابِعُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِظْلَالُ الْجَبَلِ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ وَقَعَ لَكَانَ يَجْرِي مَجْرَى الْإِلْجَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ وَهُوَ يُنَافِي التَّكْلِيفَ. أَجَابَ الْقَاضِي بِأَنَّهُ لَا يُلْجِئُ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ خَوْفُ السُّقُوطُ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا اسْتَمَرَّ فِي مَكَانِهِ مدة وقد شاهدوا السموات مَرْفُوعَةً فَوْقَهُمْ بِلَا عِمَادٍ جَازَ هَاهُنَا أَنْ يَزُولَ عَنْهُمُ الْخَوْفُ فَيَزُولَ الْإِلْجَاءُ وَيَبْقَى التَّكْلِيفُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أَيْ بِجِدٍّ وَعَزِيمَةٍ كَامِلَةٍ وَعُدُولٍ عَنِ التَّغَافُلِ وَالتَّكَاسُلِ، قَالَ الْجُبَّائِيُّ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ قَبْلَ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: خُذْ هَذَا بِقُوَّةٍ وَلَا قُوَّةَ حَاصِلَةٌ كما لا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute