للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يُقَالُ: اكْتُبْ بِالْقَلَمِ وَلَا قَلَمَ، وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الْمُرَادَ: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِجِدٍّ وَعَزِيمَةٍ وَعِنْدَنَا الْعَزِيمَةُ قَدْ تَكُونُ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْفِعْلِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ أَيِ احْفَظُوا مَا فِي الْكِتَابِ وَادْرُسُوهُ وَلَا تَنْسُوهُ وَلَا تَغْفُلُوا عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا حَمَلْتُمُوهُ عَلَى نَفْسِ الذِّكْرِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الذِّكْرَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ يَجُوزُ الْأَمْرُ بِهِ. فَأَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمُدَارَسَةِ فَلَا إِشْكَالَ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيْ لِكَيْ تَتَّقُوا، وَاحْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ فِعْلَ الطَّاعَةِ مِنَ الْكُلِّ، وَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ أَخْذًا لِلْمِيثَاقِ وَلَا صَحَّ قَوْلُهُ مِنْ بَعْدِ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى الْقَبُولِ وَالِالْتِزَامِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أَيْ ثُمَّ أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْمِيثَاقِ وَالْوَفَاءِ بِهِ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ:

قَدْ يُعْلَمُ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّهُمْ بَعْدَ قَبُولِ التَّوْرَاةِ وَرَفْعِ الطُّورِ تَوَلَّوْا عَنِ التَّوْرَاةِ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ، فَحَرَّفُوا التَّوْرَاةَ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهَا وَقَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ وَكَفَرُوا بِهِمْ وَعَصَوْا أَمْرَهُمْ وَلَعَلَّ فِيهَا مَا اخْتُصَّ بِهِ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ وَمِنْهَا مَا عَمِلَهُ أَوَائِلُهُمْ وَمِنْهَا مَا فَعَلَهُ مُتَأَخِّرُوهُمْ وَلَمْ يَزَالُوا فِي التِّيهِ مَعَ مُشَاهَدَتِهِمُ الْأَعَاجِيبَ لَيْلًا وَنَهَارًا يُخَالِفُونَ مُوسَى وَيَعْتَرِضُونَ عَلَيْهِ وَيُلْقُونَهُ بِكُلِّ أَذًى وَيُجَاهِرُونَ بِالْمَعَاصِي فِي مُعَسْكَرِهِمْ ذَلِكَ حَتَّى لَقَدْ خُسِفَ بِبَعْضِهِمْ وَأَحْرَقَتِ النَّارُ بَعْضَهُمْ وَعُوقِبُوا بِالطَّاعُونِ وَكُلُّ هَذَا مَذْكُورٌ فِي تَرَاجِمِ التَّوْرَاةِ الَّتِي يُقِرُّونَ بِهَا ثُمَّ فَعَلَ مُتَأَخِّرُوهُمْ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ حَتَّى عُوقِبُوا بِتَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَفَرُوا بِالْمَسِيحِ وَهَمُّوا بِقَتْلِهِ. وَالْقُرْآنُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ بَيَانُ مَا تَوَلَّوْا بِهِ عَنِ التَّوْرَاةِ فَالْجُمْلَةُ مَعْرُوفَةٌ وَذَلِكَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عِنَادِ أَسْلَافِهِمْ فَغَيْرُ عَجِيبٍ إِنْكَارُهُمْ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ/ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْكِتَابِ وَجُحُودُهُمْ لِحَقِّهِ وَحَالُهُمْ فِي كِتَابِهِمْ وَنَبِيِّهِمْ مَا ذُكِرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ فَفِيهِ بَحْثَانِ:

الْأَوَّلُ: ذَكَرَ الْقَفَّالُ فِي تَفْسِيرِهِ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: لَوْلَا مَا تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ إِمْهَالِكُمْ وَتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْكُمْ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ أَيْ مِنَ الهالكين الذين باعوا أنفسهم نار جَهَنَّمَ، فَدَلَّ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا خَرَجُوا عَنْ هَذَا الْخُسْرَانِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالْإِمْهَالِ حَتَّى تَابُوا. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ قَدِ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ثُمَّ قِيلَ: فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ رُجُوعًا بِالْكَلَامِ إِلَى أَوَّلِهِ، أَيْ لَوْلَا لُطْفُ اللَّهِ بِكُمْ برفع الجبل فوقكم لدمتم لي رَدِّكُمُ الْكِتَابَ وَلَكِنَّهُ تَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَرَحِمَكُمْ فَلَطَفَ بِكُمْ بِذَلِكَ حَتَّى تُبْتُمْ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ كَلِمَةُ فَلَوْلا تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِثُبُوتِ غَيْرِهِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ انْتِفَاءَ الْخُسْرَانِ مِنْ لَوَازِمِ حُصُولِ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَحَيْثُ حَصَلَ الْخُسْرَانُ وَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ هُنَاكَ لُطْفُ اللَّهِ تَعَالَى.

وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَفْعَلْ بِالْكَافِرِ شَيْئًا مِنَ الْأَلْطَافِ الدِّينِيَّةِ وَذَلِكَ خِلَافُ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ: أَجَابَ الْكَعْبِيُّ بِأَنَّهُ تَعَالَى سَوَّى بَيْنِ الْكُلِّ فِي الْفَضْلِ لَكِنِ انْتَفَعَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، فَصَحَّ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِرَجُلٍ