تَعَالَى: لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ عَلَى تَرْتِيبِ مَا يَقَعُ مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يُرِيدُ دَفْعَ الضُّرِّ عَنْ شَخْصٍ أَضَرَّ بِهِ شَخْصٌ يَدْفَعُ بِالْوَجْهِ الْأَحْسَنِ فَيَشْفَعُ أَوَّلًا فَإِنْ قَبِلَهُ وَإِلَّا يَدْفَعُ فَقَالَ: لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِنْقَاذِي بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ حَصَلَ بَيَانُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَعْبُودٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إِنْ كَانَ نَظَرًا إِلَى جَانِبِهِ فَهُوَ فَاطِرٌ وَرَبٌّ مَالِكٌ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ سَوَاءٌ أَحْسَنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُحْسِنْ وَإِنْ كَانَ نَظَرًا إِلَى إِحْسَانِهِ فَهُوَ رَحْمَنٌ، وَإِنْ كَانَ نَظَرًا إِلَى الْخَوْفِ فَهُوَ يَدْفَعُ ضَرَّهُ، وَحَصَلَ بَيَانُ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُعْبَدَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَإِنَّ أَدْنَى مَرَاتِبِهِ أَنْ يُعِدَّ ذَلِكَ لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وَغَيْرُ اللَّهِ لَا يَدْفَعُ شَيْئًا إِلَّا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ وإن يرد فلا حاجة إلى دافع. ثم قال تعالى:
[[سورة يس (٣٦) : آية ٢٤]]
إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤)
يَعْنِي إِنْ فَعَلْتُ فَأَنَا ضَالٌّ ضَلَالًا بَيِّنًا، وَالْمُبِينُ مُفْعِلٌ بِمَعْنَى فَعِيلٍ كَمَا جَاءَ عَكْسُهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ فِي قَوْلِهِ أَلِيمٌ أَيْ مُؤْلِمٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ ضَلَالٌ مُبِينٌ أَيْ مَظْهُورُ الْأَمْرِ لِلنَّاظِرِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
[[سورة يس (٣٦) : آية ٢٥]]
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥)
فِي الْمُخَاطَبِ بِقَوْلِهِ: بِرَبِّكُمْ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: / هُمُ الْمُرْسَلُونَ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ فَأَقْبَلَ هُوَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَقَالَ: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُوا قَوْلِي وَاشْهَدُوا لِي وَثَانِيهَا: هُمُ الْكُفَّارُ كَأَنَّهُ لَمَّا نَصَحَهُمْ وَمَا نَفَعَهُمْ قَالَ: فَأَنَا آمَنْتُ فاسمعون وثالثها: بِرَبِّكُمْ أَيُّهَا السَّامِعُونَ فَاسْمَعُونِ عَلَى الْعُمُومِ، كَمَا قُلْنَا فِي قَوْلِ الْوَاعِظِ حَيْثُ يَقُولُ: يَا مسكين ما أكثر أملك وما أنزل عَمَلَكَ يُرِيدُ بِهِ كُلَّ سَامِعٍ يَسْمَعُهُ وَفِي قوله:
فَاسْمَعُونِ فوائد أحدها: أَنَّهُ كَلَامُ مُتَرَوٍّ مُتَفَكِّرٍ حَيْثُ قَالَ: فَاسْمَعُونِ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ لِكَلَامِهِ جماعة سامعين يتفكر وثانيها: أنه ينبه القوم ويقول إني أخبرتكم بما فعلت حتى لا تقولوا لم أخفيت عنا أمرك ولو أظهرت لآمنا معك وثالثها: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ السَّمَاعَ الَّذِي بِمَعْنَى الْقَبُولِ، يَقُولُ الْقَائِلُ نَصَحْتُهُ فَسَمِعَ قَوْلِي أَيْ قَبِلَهُ، فَإِنْ قُلْتَ لِمَ قَالَ مِنْ قَبْلُ: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي [يس: ٢٢] وقال هاهنا: آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ وَلَمْ يَقُلْ آمَنْتُ بِرَبِّي؟ نَقُولُ قَوْلُنَا الْخِطَابُ مَعَ الرُّسُلِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ ظَهَرَ عِنْدَ الرُّسُلِ أَنَّهُ قَبِلَ قَوْلَهُمْ وَآمَنَ بِالرَّبِّ الَّذِي دَعَوْهُ إِلَيْهِ وَلَوْ قَالَ بِرَبِّي لَعَلَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ كُلُّ كَافِرٍ يَقُولُ لِي رَبٌّ وَأَنَا مُؤْمِنٌ بِرَبِّي، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا الْخِطَابُ مَعَ الْكُفَّارِ فَفِيهِ بَيَانٌ لِلتَّوْحِيدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي [يس:
٢٢] ثُمَّ قَالَ: آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فُهِمَ أَنَّهُ يَقُولُ رَبِّي وَرَبُّكُمْ وَاحِدٌ وَهُوَ الَّذِي فَطَرَنِي وَهُوَ بِعَيْنِهِ رَبُّكُمْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ آمَنْتُ بِرَبِّي فَيَقُولُ الْكَافِرُ وَأَنَا أَيْضًا آمَنْتُ بِرَبِّي وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ. [الشورى: ١٥] .
[[سورة يس (٣٦) : آية ٢٦]]
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قُتِلَ ثُمَّ قِيلَ لَهُ ادْخُلِ الْجَنَّةَ بَعْدَ الْقَتْلِ وَثَانِيهِمَا: قِيلَ ادْخُلِ الجنة عقيب قوله آمَنْتُ [يس: ٢٥] وعلى الأول. فقوله تعالى: قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَاللَّهُ أَخْبَرَ بِقَوْلِهِ وَعَلَى الثَّانِي قَالَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ وَكَأَنَّهُ سَمِعَ الرُّسُلَ أَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِينَ الْجَنَّةَ وَصَدَّقَهُمْ وَقَطَعَ بِهِ وَعَلِمَهُ، فَقَالَ: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ كَمَا عَلِمْتُ فَيُؤْمِنُونَ كَمَا آمَنْتُ وَفِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قِيلَ وَجْهَانِ كَمَا أن في وقت ذلك وجهان أَحَدُهُمَا: قِيلَ مِنَ الْقَوْلِ وَالثَّانِي: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، وهذا كما