للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ بِقَوْلِهِ: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَيْسَ مَخْلُوقًا للَّه تَعَالَى. قَالَ: لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ خَلَقَ الْإِفْكَ فِيهِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَقُولَ مَعَ ذَلِكَ: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ.

وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْقُدْرَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الضِّدَّيْنِ عَلَى السَّوِيَّةِ، فَإِنْ تَرَجَّحَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ هَذَا الرُّجْحَانُ مِنَ الْعَبْدِ، بَلْ يَكُونُ مَحْضَ الِاتِّفَاقِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وَإِنْ تَوَقَّفَ ذَلِكَ الْمُرَجَّحُ عَلَى حُصُولِ مُرَجَّحٍ، وَهِيَ الدَّاعِيَةُ الْجَاذِبَةُ إِلَى الْفِعْلِ، فَحُصُولُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ يَكُونُ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَعِنْدَ حُصُولِهَا يَجِبُ الْفِعْلُ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُكُمْ كُلُّ مَا أَلْزَمْتُمُوهُ عَلَيْنَا. واللَّه أعلم.

[[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٦]]

فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦)

[في قوله تعالى فالق الإصباح وأنه مِنْ دَلَائِلِ وُجُودِ الصَّانِعِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ دَلَائِلِ وُجُودِ الصَّانِعِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَالنَّوْعُ الْمُتَقَدِّمُ كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ دَلَالَةِ أَحْوَالِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، وَالنَّوْعُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَحْوَالِ الْفَلَكِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فَلْقَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ بِنُورِ الصُّبْحِ أَعْظَمُ فِي كَمَالِ الْقُدْرَةِ مِنْ فَلْقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى بِالنَّبَاتِ وَالشَّجَرِ، وَلِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْأَحْوَالَ الْفَلَكِيَّةَ أَعْظَمُ فِي الْقُلُوبِ وَأَكْثَرُ وَقْعًا مِنَ الْأَحْوَالِ الْأَرْضِيَّةِ، وَتَقْرِيرُ الْحُجَّةِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ: الصُّبْحُ صُبْحَانِ.

فَالصُّبْحُ الْأَوَّلُ: هُوَ الصُّبْحُ الْمُسْتَطِيلُ كَذَنَبِ السِّرْحَانِ، ثُمَّ تُعْقِبُهُ ظُلْمَةٌ خَالِصَةٌ، ثُمَّ يَطْلُعُ بَعْدَهُ الصُّبْحُ الْمُسْتَطِيرُ فِي جَمِيعِ الْأُفُقِ فَنَقُولُ: أَمَّا الصُّبْحُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمُسْتَطِيلُ الَّذِي يَحْصُلُ عَقِيبَهُ ظُلْمَةٌ خَالِصَةٌ فَهُوَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّه وَحِكْمَتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ النُّورَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَصَلَ مِنْ تَأْثِيرِ قُرْصِ الشَّمْسِ أَوْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَرْكَزَ الشَّمْسِ إِذَا وَصَلَ إِلَى دَائِرَةِ نِصْفِ اللَّيْلِ فَأَهْلُ الْمَوْضِعِ الَّذِي تَكُونُ تِلْكَ الدَّائِرَةُ أُفُقًا لَهُمْ قَدْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ مِنْ مَشْرِقِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَيْضًا نِصْفُ كُرَةِ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ حَصَلَ الضَّوْءُ فِي الرُّبْعِ الشَّرْقِيِّ مِنْ بَلْدَتِنَا، وَذَلِكَ الضَّوْءُ يَكُونُ مُنْتَشِرًا مُسْتَطِيرًا فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْجَوِّ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الضَّوْءُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ إِلَى الْقُوَّةِ وَالزِّيَادَةِ وَالْكَمَالِ، وَالصُّبْحُ الْأَوَّلُ لَوْ كَانَ أَثَرُ قُرْصِ الشَّمْسِ لَامْتَنَعَ كَوْنُهُ خَطًّا مُسْتَطِيلًا، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيرًا فِي جَمِيعِ الْأُفُقِ مُنْتَشِرًا فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَزَايِدًا مُتَكَامِلًا بِحَسَبِ كُلِّ حِينٍ وَلَحْظَةٍ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ عَلِمْنَا أَنَّ الصُّبْحَ الْأَوَّلَ يَبْدُو كَالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ الصَّاعِدِ حَتَّى تُشَبِّهَهُ الْعَرَبُ بذنب السرحان، ثم إنه يحصل عيبه ظُلْمَةٌ خَالِصَةٌ، ثُمَّ يَحْصُلُ الصُّبْحُ الْمُسْتَطِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الصُّبْحَ الْمُسْتَطِيلَ لَيْسَ مِنْ تَأْثِيرِ قُرْصِ الشَّمْسِ، وَلَا مِنْ جِنْسِ نُورِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَاصِلًا بِتَخْلِيقِ اللَّه تَعَالَى ابْتِدَاءً تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْأَنْوَارَ لَيْسَ لَهَا وُجُودٌ إِلَّا بِتَخْلِيقِهِ، وَأَنَّ الظُّلُمَاتِ لَا ثَبَاتَ لَهَا إِلَّا بِتَقْدِيرِهِ كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّا لَمَّا بَحَثْنَا وَتَأَمَّلْنَا عَلِمْنَا أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وسائر الكواكب لا تقع أضواؤها إلى عَلَى الْجِرْمِ الْمُقَابِلِ لَهَا. فَأَمَّا الَّذِي لَا يَكُونُ مُقَابِلًا لَهَا فَيَمْتَنِعُ وُقُوعُ أَضْوَائِهَا عَلَيْهِ، وَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْفَلَاسِفَةِ وَبَيْنَ الرِّيَاضِيِّينَ الْبَاحِثِينَ عَنْ أَحْوَالِ الضَّوْءِ الْمُضِيءِ، وَلَهُمْ فِي تَقْرِيرِهَا وُجُوهٌ نَفِيسَةٌ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا نقول: الشمس عند الطلوع الصُّبْحِ غَيْرُ مُرْتَفِعَةٍ مِنَ الْأُفُقِ فَلَا يَكُونُ جِرْمُ الشَّمْسِ مُقَابِلًا لِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَمْتَنِعُ وُقُوعُ ضَوْءِ الشَّمْسِ عَلَى وَجْهِ الأرض، وإذ كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ ضَوْءُ

<<  <  ج: ص:  >  >>