مُبْعَدُونَ
لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ كَانَ فِي النَّارِ. وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها مَخْصُوصٌ بِمَا بَعْدَ الْخُرُوجِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ فَالْفَزَعُ الْأَكْبَرُ هُوَ عَذَابُ الْكُفَّارِ، وَهَذَا بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَصْغَرُ، فَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى ثُبُوتِهِ وَلَا عَلَى عَدَمِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي:
فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ أَنَّ الْمُرَادَ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى لَا يَدْخُلُونَ النَّارَ وَلَا يَقْرَبُونَهَا الْبَتَّةَ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ بَطَلَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَرِدُونَ النَّارَ ثُمَّ يَخْرُجُونَ إِلَى الْجَنَّةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَانِعَةٌ مِنْهُ وَحِينَئِذٍ يَجِبُ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قوله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: ٧١] وَقَدْ تَقَدَّمَ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَالْحَسِيسُ الصَّوْتُ الَّذِي يُحَسُّ، وَفِيهِ سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَيُّ وَجْهٍ فِي أَنْ لَا يَسْمَعُوا حَسِيسَهَا مِنَ الْبِشَارَةِ وَلَوْ سَمِعُوهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُمْ. قُلْنَا: الْمُرَادُ تَأْكِيدُ بُعْدِهِمْ عَنْهَا لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا وَقَرُبَ مِنْهَا قَدْ يَسْمَعُ حَسِيسَهَا. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَلَيْسَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَرَوْنَ أَهْلَ النَّارِ فَكَيْفَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَ النَّارِ؟ الْجَوَابُ: إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى التَّأْكِيدِ زَالَ هَذَا السُّؤَالُ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ وَالشَّهْوَةُ طَلَبُ النَّفْسِ لِلَذَّةٍ يَعْنِي نَعِيمُهَا مُؤَبَّدٌ، قَالَ الْعَارِفُونَ: لِلنُّفُوسِ شَهْوَةٌ وَلِلْقُلُوبِ شَهْوَةٌ وَلِلْأَرْوَاحِ شَهْوَةٌ، وَقَالَ الْجُنَيْدُ: سَبَقَتِ الْعِنَايَةُ فِي الْبِدَايَةِ، فَظَهَرَتِ الْوِلَايَةُ فِي النِّهَايَةِ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [النَّمْلِ: ٨٧] . وَثَانِيهَا: أَنَّهُ الْمَوْتُ قَالُوا: إِذَا اسْتَقَرَّ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ بَعَثَ اللَّه تَعَالَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَعَهُ الْمَوْتُ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيَقُولُ لِأَهْلِ الدَّارَيْنِ أَتَعْرِفُونَ هَذَا فَيَقُولُونَ: لَا فَيَقُولُ هَذَا الْمَوْتُ ثُمَّ يَذْبَحُهُ ثُمَّ يُنَادِي يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ وَلَا مَوْتَ أَبَدًا، وَكَذَلِكَ لِأَهْلِ النَّارِ، وَاحْتَجَّ هَذَا الْقَائِلُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ إِنَّمَا ذُكِرَ بَعْدَ قوله: وَهُمْ فِيها خالِدُونَ [البقرة: ٢٥] فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا تَعَلُّقٌ بِالْآخَرِ، وَالْفَزَعُ الْأَكْبَرُ الَّذِي هُوَ يُنَافِي الْخُلُودَ هُوَ الْمَوْتُ. وَثَالِثُهَا: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ هُوَ إِطْبَاقُ النَّارِ عَلَى أَهْلِهَا فَيَفْزَعُونَ لِذَلِكَ فَزْعَةً عَظِيمَةً، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: الْأَوْلَى فِي ذَلِكَ أَنَّهُ الْفَزَعُ مِنَ النَّارِ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهَا لِأَنَّهُ لَا فَزَعَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْزُنُهُمْ فَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْمُؤْمِنَ آمِنٌ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ عَذَابَ النَّارِ عَلَى مَرَاتِبَ فَعَذَابُ الْكُفَّارِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الْفُسَّاقِ، وَإِذَا كَانَتْ مَرَاتِبُ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ مُتَفَاوِتَةً كَانَتْ مَرَاتِبُ الْفَزَعِ مِنْهَا مُتَفَاوِتَةً، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ نَفْيُ الْفَزَعِ مِنَ النَّارِ.
الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ قَالَ الضَّحَّاكُ: هُمُ الْحَفَظَةُ الَّذِينَ كَتَبُوا أَعْمَالَهُمْ وَأَقْوَالَهُمْ وَيَقُولُونَ لَهُمْ مُبَشِّرِينَ: هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٧]
يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute