للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَجْعَلَ الْهَاءَ كِنَايَةً عَنِ الْمَصْدَرِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِ الِاقْتِدَاءَ، فَيُضْمَرُ الِاقْتِدَاءُ لِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ، وَقِيَاسُهُ إِذَا وَقَفَ أَنْ تُسَكَّنَ الْهَاءُ، لِأَنَّ هَاءَ الضَّمِيرِ تُسَكَّنُ فِي الْوَقْفِ، كَمَا تَقُولُ: اشْتَرِهْ. واللَّه أَعْلَمُ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهُدَى الْأَنْبِيَاءِ/ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ هُدَاهُمْ تَرْكُ طَلَبِ الْأَجْرِ فِي إِيصَالِ الدِّينِ وَإِبْلَاغِ الشَّرِيعَةِ. لَا جَرَمَ اقتدى بهم في ذلك، فقال: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً وَلَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ مَالًا وَلَا جعلا إِنْ هُوَ يعني القر إن إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ يُرِيدُ كَوْنَهُ مُشْتَمِلًا عَلَى كُلِّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ وَقَوْلُهُ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ يَدُلُّ على أنه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ مَبْعُوثٌ إِلَى كُلِّ أَهْلِ الدُّنْيَا لَا إلى قوم دون قوم. واللَّه أعلم.

[[سورة الأنعام (٦) : آية ٩١]]

وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى] اعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ مَدَارَ أَمْرِ الْقُرْآنِ عَلَى إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ. وَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ ذَكَرَ دَلِيلَ التَّوْحِيدِ، وَإِبْطَالَ الشِّرْكِ، وَقَرَّرَ تَعَالَى ذَلِكَ الدَّلِيلَ بِالْوُجُوهِ الْوَاضِحَةِ شَرَعَ بَعْدَهُ فِي تَقْرِيرِ أَمْرِ النُّبُوَّةِ، فَقَالَ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ حَيْثُ أَنْكَرُوا النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ، فَهَذَا بَيَانُ وَجْهِ نَظْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَنَّهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وُجُوهٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا عَظَّمُوا اللَّه حَقَّ تَعْظِيمِهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ مَعْنَاهُ: مَا آمَنُوا أَنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَا وَصَفُوهُ حَقَّ صِفَتِهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ. مَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَحَقَّقَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه ذَلِكَ، فَقَالَ يُقَالُ:

قَدَّرَ الشَّيْءَ إِذَا سَبَرَهُ وَحَرَّرَهُ، وَأَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ مِقْدَارَهُ يُقَدِّرُهُ بِالضَّمِّ قَدْرًا وَمِنْهُ

قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَإِنَّ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ»

أَيْ فَاطْلُبُوا أَنْ تَعْرِفُوهُ هَذَا أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ، ثُمَّ قَالَ يُقَالُ لِمَنْ عَرَفَ شَيْئًا هُوَ يُقَدِّرُ قَدْرَهُ، وَإِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ بِصِفَاتِهِ أَنَّهُ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ، فَقَوْلُهُ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ صَحِيحٌ فِي كُلِّ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ بَيَّنَ السَّبَبَ فِيهِ، وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَنْكَرَ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَا عَرَفَ اللَّه حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ مُنْكِرَ الْبِعْثَةِ وَالرِّسَالَةِ إِمَّا أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى مَا كَلَّفَ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ تَكْلِيفًا أَصْلًا، أَوْ يَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى كَلَّفَهُمُ التَّكَالِيفَ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ لَهُمْ جَمِيعَ الْمُنْكَرَاتِ وَالْقَبَائِحِ نَحْوَ شَتْمِ اللَّه، وَوَصْفِهِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَالِاسْتِخْفَافِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَأَهْلِ الدِّينِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ شُكْرِ النِّعَمِ، وَمُقَابَلَةِ الْإِنْعَامِ بِالْإِسَاءَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ. وَإِمَّا أَنْ يُسَلِّمَ أَنَّهُ تَعَالَى كَلَّفَ الْخَلْقَ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، فَهَهُنَا لَا بُدَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>