للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالنَّصَارَى فِي هَذَا الْبَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ بِالدَّلِيلِ يَكُونُ أَصِيلًا فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَنْ قَبْلَهُ الْبَتَّةَ، وَالِاقْتِدَاءُ وَالِاتِّبَاعُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا كَانَ فِعْلُ الْأَوَّلِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْفِعْلِ عَلَى الثَّانِي، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَسْقُطُ السُّؤَالُ.

وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الرَّسُولَ بِالِاقْتِدَاءِ بِجَمِيعِهِمْ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ وَالْأَخْلَاقِ الشَّرِيفَةِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ أَقَلَّ مَرْتَبَةً مِنْهُمْ، بَلْ يُوجِبُ كَوْنَهُ أَعْلَى مَرْتَبَةً مِنَ الْكُلِّ عَلَى مَا سَيَجِيءُ تَقْرِيرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا يَلْزَمُنَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ رَسُولَنَا صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَتَقْرِيرُهُ: هُوَ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ خِصَالَ الْكَمَالِ، وَصِفَاتَ الشَّرَفِ كَانَتْ مُفَرَّقَةً فِيهِمْ/ بِأَجْمَعِهِمْ، فَدَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ كَانَا مِنْ أَصْحَابِ الشُّكْرِ عَلَى النِّعْمَةِ، وَأَيُّوبُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ وَيُوسُفُ كَانَ مُسْتَجْمِعًا لِهَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ.

وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ صَاحِبَ الشَّرِيعَةِ الْقَوِيَّةِ الْقَاهِرَةِ وَالْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَزَكَرِيَّا، وَيَحْيَى، وَعِيسَى، وَإِلْيَاسُ، كَانُوا أَصْحَابَ الزُّهْدِ، وَإِسْمَاعِيلُ كَانَ صَاحِبَ الصِّدْقِ، وَيُونُسُ صَاحِبُ التَّضَرُّعِ، فَثَبَتَ إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ كَانَ خَصْلَةً مُعَيَّنَةً مِنْ خِصَالِ الْمَدْحِ وَالشَّرَفِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْكُلَّ أَمَرَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ بِأَسْرِهِمْ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ مُحَمَّدًا صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَنْ يَجْمَعَ مِنْ خِصَالِ الْعُبُودِيَّةِ وَالطَّاعَةِ كُلَّ الصِّفَاتِ الَّتِي كَانَتْ مُفَرَّقَةً فِيهِمْ بِأَجْمَعِهِمْ وَلَمَّا أَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ، امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قَصَّرَ فِي تَحْصِيلِهَا، فَثَبَتَ أَنَّهُ حَصَّلَهَا، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، ثَبَتَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ مَا كَانَ مُتَفَرِّقًا فِيهِمْ بِأَسْرِهِمْ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُمْ بِكُلِّيَّتِهِمْ. واللَّه أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَوْلُهُ: هَدَى اللَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ مَخْصُوصُونَ بِالْهُدَى، لِأَنَّهُ لَوْ هَدَى جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَائِدَةُ تَخْصِيصٍ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الِاقْتِدَاءُ فِي اللُّغَةِ إِتْيَانُ الثَّانِي بِمِثْلِ فِعْلِ الْأَوَّلِ لِأَجْلِ أَنَّهُ فَعَلَهُ. رَوَى اللِّحْيَانِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُقَالُ لِي بِكَ قُدْوَةٌ وَقِدْوَةٌ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قال الواحدي: قرأ ابن عامر اقتداه بِكَسْرِ الدَّالِ وَبِشَمِّ الْهَاءِ لِلْكَسْرِ مِنْ غَيْرِ بُلُوغِ يَاءٍ، وَالْبَاقُونَ اقْتَدِهْ سَاكِنَةَ الْهَاءِ، غَيْرُ أَنَّ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيَّ يَحْذِفَانِهَا فِي الْوَصْلِ وَيُثْبِتَانِهَا فِي الْوَقْفِ، وَالْبَاقُونَ يُثَبِّتُونَهَا فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ حَصَلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى إِثْبَاتِهَا فِي الْوَقْفِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْوَجْهُ الْإِثْبَاتُ فِي الْوَقْفِ وَالْحَذْفُ فِي الْوَصْلِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْهَاءَ هَاءٌ وَقَعَتْ فِي السَّكْتِ بِمَنْزِلَةِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْهَاءَ لِلْوَقْفِ، كَمَا أَنَّ هَمْزَةَ الْوَصْلِ لِلِابْتِدَاءِ بِالسَّاكِنِ، فَكَمَا لَا تَثْبُتُ الْهَمْزَةُ حَالَ الْوَصْلِ، كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَثْبُتَ الْهَاءُ إِلَّا أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَثْبَتُوا رَامُوا مُوَافِقَةَ الْمُصْحَفِ، فَإِنَّ الْهَاءَ ثَابِتَةٌ فِي الْخَطِّ فَكَرِهُوا مُخَالَفَةَ الْخَطِّ فِي حَالَتَيِ الْوَقْفِ وَالْوَصْلِ فَأَثْبَتُوا. وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمُجَاهِدٌ: هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْهَاءَ هَاءُ وَقَفٍ، فَلَا تُعْرَبُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَإِنَّمَا تُذْكَرُ لِيَظْهَرَ بِهَا حَرَكَةُ مَا قَبْلَهَا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَيْسَ بِغَلَطٍ، وَوَجْهُهَا أَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>