للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أَيْ مِنَ الْأُمُورِ الْوَاجِبَةِ الْمَعْزُومَةِ أَيِ الْمَقْطُوعَةِ وَيَكُونُ الْمَصْدَرُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، كَمَا تَقُولُ أَكْلِي فِي النَّهَارِ رَغِيفُ خُبْزٍ أَيْ مَأْكُولِي. ثم قال تعالى:

[[سورة لقمان (٣١) : آية ١٨]]

وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨)

لما أمره أَمَرَهُ بِأَنْ يَكُونَ كَامِلًا فِي نَفْسِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ وَكَانَ يَخْشَى بَعْدَهُمَا مِنْ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: التَّكَبُّرُ عَلَى الْغَيْرِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ مُكَمِّلًا لَهُ وَالثَّانِي: التَّبَخْتُرُ فِي النَّفْسِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ كَامِلًا فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ تَكَبُّرًا وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً تَبَخْتُرًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ يَعْنِي مَنْ يَكُونُ بِهِ خُيَلَاءُ وَهُوَ الَّذِي يَرَى النَّاسُ عَظَمَةَ نَفْسِهِ وَهُوَ التَّكَبُّرُ فَخُورٍ يَعْنِي مَنْ يَكُونُ مُفْتَخِرًا بِنَفْسِهِ وَهُوَ الَّذِي يَرَى عَظَمَةً لِنَفْسِهِ فِي عَيْنِهِ، وَفِي الْآيَةِ لَطِيفَةٌ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ الْكَمَالَ عَلَى التَّكْمِيلِ حَيْثُ قَالَ أَقِمِ الصَّلاةَ ثُمَّ قَالَ: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَفِي النَّهْيِ قَدَّمَ مَا يُورِثُهُ التَّكْمِيلُ عَلَى مَا يُورِثُهُ الْكَمَالُ حَيْثُ قَالَ: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ ثُمَّ قَالَ:

وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً لِأَنَّ فِي طَرَفِ الْإِثْبَاتِ مَنْ لَا يَكُونُ كَامِلًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِيرَ مُكَمِّلًا فَقَدَّمَ الْكَمَالَ، وَفِي طَرَفِ النَّفْيِ مَنْ يَكُونُ مُتَكَبِّرًا عَلَى غَيْرِهِ مُتَبَخْتِرًا لِأَنَّهُ لَا يَتَكَبَّرُ عَلَى الْغَيْرِ إِلَّا عِنْدَ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْهُ مِنْ وَجْهٍ، وَأَمَّا مَنْ يَكُونُ مُتَبَخْتِرًا فِي نَفْسِهِ لَا يَتَكَبَّرُ، وَيَتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَتَوَاضَعُ لِلنَّاسِ فَقَدَّمَ نَفْيَ التَّكَبُّرِ ثُمَّ نَفْيَ التَّبَخْتُرِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَدْ نَفَى التَّبَخْتُرَ لَلَزِمَ مِنْهُ نَفْيُ التَّكَبُّرِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى النَّهْيِ عَنْهُ وَمِثَالُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَا تُفْطِرْ وَلَا تَأْكُلْ، لِأَنَّ مَنْ لَا يُفْطِرُ لَا يَأْكُلُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَا تَأْكُلْ/ وَلَا تُفْطِرْ، لِأَنَّ مَنْ لَا يَأْكُلُ قَدْ يُفْطِرُ بِغَيْرِ الْأَكْلِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ يَكُونُ لِلتَّفْسِيرِ فَيَقُولُ لَا تُفْطِرْ وَلَا تَأْكُلْ أَيْ لَا تُفْطِرْ بِأَنْ تَأْكُلَ وَلَا يَكُونُ نَهْيَيْنِ بَلْ واحدا. ثم قال تعالى:

[[سورة لقمان (٣١) : آية ١٩]]

وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩)

لَمَّا قَالَ: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً وَعَدَمُ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِضِدِّهِ وَهُوَ الَّذِي يُخَالِفُ غَايَةَ الِاخْتِلَافِ، وَهُوَ مَشْيُ الْمُتَمَاوِتِ الَّذِي يَرَى مِنْ نَفْسِهِ الضَّعْفَ تَزَهُّدًا فَقَالَ: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أَيْ كُنْ وَسَطًا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ الْمَذْمُومَيْنِ، وَفِي الْآيَةِ مسائل:

الْأُولَى: هَلْ لِلْأَمْرِ بِالْغَضِّ مِنَ الصَّوْتِ مُنَاسَبَةٌ مَعَ الْأَمْرِ بِالْقَصْدِ فِي الْمَشْيِ؟ فَنَقُولُ: نَعَمْ سَوَاءٌ عَلِمْنَاهَا نَحْنُ أَوْ لَمْ نَعْلَمْهَا وَفِي كَلَامِ اللَّهِ مِنَ الْفَوَائِدِ مَا لَا يَحْصُرُهُ حَدٌّ وَلَا يُصِيبُهُ عَدٌّ، وَلَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ وَالَّذِي يَظْهَرُ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَمَّا كَانَ شَرِيفًا تَكُونُ مَطَالِبُهُ شَرِيفَةً فَيَكُونُ فَوَاتُهَا خَطَرًا فَأَقْدَرَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ عَلَى تَحْصِيلِهَا بِالْمَشْيِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ إِدْرَاكِ مَقْصُودِهِ يُنَادِي مَطْلُوبَهُ فَيَقِفُ لَهُ أَوْ يَأْتِيهُ مَشْيًا إِلَيْهِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ إِبْلَاغِ كَلَامِهِ إِلَيْهِ، وَبَعْضُ الْحَيَوَانَاتِ يُشَارِكُ الْإِنْسَانَ فِي تَحْصِيلِ الْمَطْلُوبِ بِالصَّوْتِ كَمَا أَنَّ الْغَنَمَ تَطْلُبُ السَّخْلَةَ وَالْبَقَرَةَ الْعِجْلَ وَالنَّاقَةَ الْفَصِيلَ بِالثُّغَاءِ وَالْخُوَارِ وَالرُّغَاءِ وَلَكِنْ لَا تَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهَا، وَالْإِنْسَانُ يُمَيِّزُ الْبَعْضَ عَنِ الْبَعْضِ فَإِذَا كَانَ الْمَشْيُ وَالصَّوْتُ مُفْضِيَيْنِ إِلَى مَقْصُودٍ وَاحِدٍ لَمَّا أَرْشَدَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا أَرْشَدَهُ إِلَى الْآخَرِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ عَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ يُشَارِكُهُ فِيهِ الْحَيَوَانَاتُ فَإِنَّهُ حَرَكَةٌ وَسُكُونٌ، وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَعَزْمٌ بِالْقَلْبِ وَهُوَ لَا اطِّلَاعَ عليه إلا الله، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ [لقمان: ١٦] أَيْ أَصْلِحْ ضَمِيرَكَ فَإِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ، بَقِيَ الْأَمْرَانِ فَقَالَ: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِشَارَةً إِلَى التَّوَسُّطِ

<<  <  ج: ص:  >  >>