وَصْفُ اللَّهِ الْيَوْمَ بِالْحَقِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ [النَّبَأِ: ٣٩] خَامِسُهَا: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُقَالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [الذاريات: ١٤] وَفِي التَّفْسِيرِ مَبَاحِثُ:
الْأَوَّلُ: الْفَاءُ تَسْتَدْعِي تَعْقِيبَ أَمْرٍ لِأَمْرٍ فَمَا الْأَمْرُ الْمُتَقَدِّمُ؟ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الدَّلِيلُ الْمُتَقَدِّمُ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَحَقٌّ بِالْبُرْهَانِ الْمُبِينِ، ثُمَّ بِالْقَسَمِ وَالْيَمِينِ ثَانِيهِمَا: الْقَسَمُ الْمُتَقَدِّمُ كَأَنَّهُ تَعَالَى يقول وَالذَّارِياتِ ثم فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَاءُ حَرْفَ عَطْفٍ أُعِيدَ مَعَهُ حَرْفُ الْقَسَمِ كَمَا يُعَادُ الْفِعْلُ إِذْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ وَمَرَرْتُ بِعَمْرٍو، فقوله وَالذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً [الذاريات: ١، ٢] عَطْفٌ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ حَرْفِ الْقَسَمِ، وَقَوْلُهُ فَوَ رَبِّ السَّماءِ مَعَ إِعَادَةِ حَرْفِهِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ وُقُوعُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْقَسَمَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ الْأَمْرُ الْمُتَقَدِّمُ هُوَ بَيَانُ الثَّوَابِ فِي قَوْلِهِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات: ١٣] وقوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ [الذاريات: ١٥] وَفِيهِ فَائِدَةٌ، وَهُوَ أَنَّ الْفَاءَ تَكُونُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنْ لَا حَاجَةَ إِلَى الْيَمِينِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَشْفِ الْمُبِينِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ وَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ، كَمَا يَقُولُ القائل بعد ما يُظْهِرُ دَعْوَاهُ هَذَا وَاللَّهِ إِنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْتُ فَيُؤَكِّدُ قَوْلَهُ بِالْيَمِينِ، وَيُشِيرُ إِلَى ثُبُوتِهِ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَقْسَمَ مِنْ قَبْلُ بِالْأُمُورِ الْأَرْضِيَّةِ وَهِيَ الرِّيَاحُ وَبِالسَّمَاءِ فِي قوله وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ [الذاريات: ٧] ولم يقسم بربها، وهاهنا أَقْسَمَ بِرَبِّهَا نَقُولُ كَذَلِكَ التَّرْتِيبُ يُقْسِمُ الْمُتَكَلِّمُ أَوَّلًا بِالْأَدْنَى فَإِنْ لَمْ يُصَدَّقْ بِهِ يَرْتَقِي إِلَى الْأَعْلَى، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ إِذَا قَالَ قَائِلٌ وَحَيَاتِكَ، وَاللَّهِ لَا يَكْفُرُ وَإِذَا قَالَ: وَاللَّهِ وَحَيَاتِكَ لَا شَكَّ يَكْفُرُ وَهَذَا اسْتِشْهَادٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ لِأَنَّ الْكُفْرَ إِمَّا بِالْقَلْبِ، أَوْ بِاللَّفْظِ الظَّاهِرِ فِي أَمْرِ الْقَلْبِ، أَوْ بِالْفِعْلِ الظَّاهِرِ، وَمَا ذَكَرَهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ فِي تَعْظِيمِ جَانِبِ غَيْرِ اللَّهِ، وَالْعَجَبُ مِنْ ذَلِكَ الْقَائِلِ أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ التَّأْخِيرَ فِي الذِّكْرِ مُفِيدًا لِلتَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قُرِئَ مِثْلُ بِالرَّفْعِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ وَصْفًا لِقَوْلِهِ لَحَقٌّ وَمِثْلُ وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى الْمَعْرِفَةِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ جَوَازِ وَصْفِ الْمُنْكَّرِ بِهِ، تَقُولُ رَأَيْتُ رَجُلًا مِثْلَ عَمْرٍو، لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُهُ تَعْرِيفًا لِأَنَّهُ فِي غَايَةِ الْإِبْهَامِ وَقُرِئَ مِثْلَ بِالنَّصْبِ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَفْتُوحًا لِإِضَافَتِهِ إِلَى مَا هُوَ ضَعِيفٌ وَإِلَّا جَازَ أَنْ يُقَالَ زَيْدٌ قَاتِلُ مَنْ يَعْرِفُهُ أَوْ ضَارِبُ مَنْ يَشْتُمُهُ ثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ/ مَنْصُوبًا عَلَى الْبَيَانِ تَقْدِيرُهُ لَحَقٌّ حَقًّا مِثْلَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَعْلُومٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَوَجْهُهُ أَنَّا دَلَّلَنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ إِنَّهُ هُوَ الْقُرْآنُ فَكَأَنَّهُ قَالَ إِنَّ الْقُرْآنَ لَحَقٌّ نَطَقَ بِهِ الْمَلَكُ نُطْقًا مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ وما مجرور لا شك فيه.
ثم قال تعالى:
[[سورة الذاريات (٥١) : آية ٢٤]]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤)
إِشَارَةً إِلَى تَسْلِيَةِ قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيَانِ أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَانَ مِثْلَهُ، وَاخْتَارَ إِبْرَاهِيمَ لِكَوْنِهِ شَيْخَ المرسلين كون النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سُنَّتِهِ فِي بعض الأشياء، وإنذار لِقَوْمِهِ بِمَا جَرَى مِنَ الضَّيْفِ، وَمِنْ إِنْزَالِ الْحِجَارَةِ عَلَى الْمُذْنِبِينَ الْمُضِلِّينَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْتَ مِنَ التَّسْلِيَةِ وَالْإِنْذَارِ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي حِكَايَةِ الضِّيَافَةِ؟ نقول ليكون
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute