فَذَكَرُوا فِي الْعُذْرِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا إِذَنْ. الثَّانِي:
أَنَّهَا لَمَّا وَقَعَتْ بَيْنَ الْفَاءِ وَالْفِعْلِ جَازَ أَنْ تُقَدَّرَ مُتَوَسِّطَةً فَتُلْغَى كَمَا تُلْغَى إِذَا تَوَسَّطَتْ أَوْ تَأَخَّرَتْ، وَهَكَذَا سَبِيلُهَا مَعَ الْوَاوِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذًا لَا يلبثون خلفك [الْإِسْرَاءِ: ٧٦] وَالثَّالِثُ: قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ (فَإِذًا لَا يُؤْتُوا) عَلَى إِعْمَالِ «إِذَنْ» عَمَلَهَا الَّذِي هُوَ النَّصْبُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: النَّقِيرُ نُقْرَةٌ فِي ظَهْرِ النَّوَاةِ وَمِنْهَا تَنْبُتُ النَّخْلَةُ، وَأَصْلُهُ أَنَّهُ/ فَعِيلٌ مِنَ النَّقْرِ، وَيُقَالُ لِلْخَشَبِ الَّذِي يُنْقَرُ فِيهِ نَقِيرٌ لِأَنَّهُ يُنْقَرُ، وَالنَّقْرُ ضَرْبُ الْحَجَرِ وَغَيْرُهُ بِالْمِنْقَارِ وَالْمِنْقَارُ حَدِيدَةٌ كَالْفَأْسِ تقطع بها الحجارة، ومنه منقار الطائر لأنه ينقر به.
واعلم أن ذكر النقير هاهنا تمثيل، والغرض انهم يبخلون بأقل القليل.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً] فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمْ: مُنْقَطِعَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ بَلْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ بِلَفْظِ «النَّاسِ» قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْجَمْعِ وَهُوَ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ مَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا مُتَفَرِّقًا فِي الْجَمْعِ الْعَظِيمِ، وَمِنْ هَذَا يُقَالُ: فُلَانٌ أُمَّةٌ وَحْدَهُ، أَيْ يَقُومُ مَقَامَ أُمَّةٍ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً [النَّحْلِ: ١٢٠] .
والقول الثاني: المراد هاهنا هُوَ الرَّسُولُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ: إِنَّ لَفْظَ النَّاسِ جَمْعٌ، فَحَمْلُهُ عَلَى الْجَمْعِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمُفْرَدِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا حَسُنَ ذكر الناس لا رادة طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ النَّاسِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْخَلْقِ إِنَّمَا هُوَ الْقِيَامُ بِالْعُبُودِيَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: ٥٦] فَلَمَّا كَانَ الْقَائِمُونَ بِهَذَا الْمَقْصُودِ لَيْسَ إِلَّا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ كَانَ عَلَى دِينِهِ كَانَ وَهُوَ وَأَصْحَابُهُ كَأَنَّهُمْ كُلُّ النَّاسِ، فَلِهَذَا حَسُنَ إِطْلَاقُ لَفْظِ النَّاسِ وَإِرَادَتِهِمْ عَلَى التَّعْيِينِ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْفَضْلِ الَّذِي لِأَجْلِهِ صَارُوا مَحْسُودِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ هُوَ النُّبُوَّةُ وَالْكَرَامَةُ الْحَاصِلَةُ بِسَبَبِهَا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ حَسَدُوهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَهُ مِنَ الزَّوْجَاتِ تِسْعٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَسَدَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ الْفَضِيلَةِ، فَكُلَّمَا كَانَتْ فَضِيلَةُ الْإِنْسَانِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ كَانَ حَسَدُ الْحَاسِدِينَ عَلَيْهِ أَعْظَمَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النُّبُوَّةَ أَعْظَمُ الْمَنَاصِبِ فِي الدِّينِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَعْطَاهَا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَضَمَّ إِلَيْهَا أَنَّهُ جَعَلَهُ كُلَّ يَوْمٍ أَقْوَى دَوْلَةً وَأَعْظَمَ شَوْكَةً وَأَكْثَرَ أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ الْحَسَدَ الْعَظِيمَ. فَأَمَّا كَثْرَةُ النِّسَاءِ فَهُوَ كَالْأَمْرِ الْحَقِيرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ هَذَا الْفَضْلِ بِهِ، بَلْ إِنْ جُعِلَ الْفَضْلُ اسْمًا