السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ: فُلَانٌ ذَاقَ الْعَذَابَ إِذَا أَدْرَكَ شَيْئًا قَلِيلًا مِنْهُ، واللَّه تَعَالَى قَدْ وَصَفَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَشَدِّ الْعَذَابِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ ذَاقُوا الْعَذَابَ؟
وَالْجَوَابُ: الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الذَّوْقِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ إِحْسَاسَهُمْ بِذَلِكَ الْعَذَابِ فِي كُلِّ حَالٍ يَكُونُ كَإِحْسَاسِ الذَّائِقِ الْمَذُوقَ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ نُقْصَانٌ وَلَا زَوَالٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاحْتِرَاقِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً وَالْمُرَادُ مِنَ الْعَزِيزِ: الْقَادِرُ الْغَالِبُ، وَمِنَ الْحَكِيمِ: الَّذِي لَا يَفْعَلُ إِلَّا الصَّوَابَ، وَذِكْرُهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، لِأَنَّهُ يَقَعُ فِي الْقَلْبِ تَعَجُّبٌ مِنْ أَنَّهُ كَيْفَ يُمْكِنُ بَقَاءُ الْإِنْسَانِ فِي النَّارِ الشَّدِيدَةِ أَبَدَ الْآبَادِ! فَقِيلَ: هَذَا لَيْسَ بِعَجِيبٍ مِنَ اللَّه، / لِأَنَّهُ الْقَادِرُ الْغَالِبُ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، يَقْدِرُ عَلَى إِزَالَةِ طَبِيعَةِ النَّارِ، وَيَقَعُ فِي الْقَلْبِ أَنَّهُ كَرِيمٌ رَحِيمٌ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِرَحْمَتِهِ تَعْذِيبُ هَذَا الشَّخْصِ الضَّعِيفِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ الْعَظِيمِ؟ فَقِيلَ: كَمَا أَنَّهُ رَحِيمٌ فَهُوَ أَيْضًا حَكِيمٌ، وَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي ذَلِكَ. فَإِنَّ نِظَامَ الْعَالَمِ لَا يَبْقَى إِلَّا بِتَهْدِيدِ الْعُصَاةِ، وَالتَّهْدِيدُ الصَّادِرُ مِنْهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَقْرُونًا بِالتَّحْقِيقِ صَوْنًا لِكَلَامِهِ عَنِ الْكَذِبِ، فثبت أن ذكر هاتين الكلمتين هاهنا في غاية الحسن.
[[سورة النساء (٤) : آية ٥٧]]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧)
اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ جَرَتْ عَادَةُ اللَّه تَعَالَى فِي هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ بِأَنَّ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ يَتَلَازَمَانِ فِي الذِّكْرِ عَلَى سَبِيلِ الْأَغْلَبِ، وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ غَيْرُ الْعَمَلِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ الْعَمَلَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْمَعْطُوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي: مَتَى ذُكِرَ لَفْظُ الْإِيمَانِ وَحْدَهُ دَخَلَ فِيهِ الْعَمَلُ، وَمَتَى ذُكِرَ مَعَهُ الْعَمَلُ كَانَ الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَهَذَا بِعِيدٌ لِأَنَّ الأصل عدم الاشتراك وعدم التغير، وَلَوْلَا أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ لَخَرَجَ الْقُرْآنُ عَنْ كَوْنِهِ مُفِيدًا. فَلَعَلَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الَّتِي نَسْمَعُهَا فِي الْقُرْآنِ يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَعْنًى سِوَى مَا نَعْلَمُهُ، وَيَكُونُ مُرَادُ اللَّه تَعَالَى مِنْهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا هَذَا الَّذِي تَبَادَرَتْ أَفْهَامُنَا إِلَيْهِ. هَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ احْتِمَالَ الِاشْتِرَاكِ وَالْإِفْرَادِ عَلَى السَّوِيَّةِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ احْتِمَالَ الْبَقَاءِ عَلَى الْأَصْلِ وَاحْتِمَالَ التَّغْيِيرِ مُتَسَاوِيَانِ فَلَا، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْأَلْفَاظُ كَانَتْ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضُوعَةً لِمَعْنًى آخَرَ غَيْرِ مَا نَفْهَمُهُ الْآنَ، ثُمَّ تَغَيَّرَتْ إِلَى هَذَا الَّذِي نَفْهَمُهُ الْآنَ. فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ يَخْرُجُ الْقُرْآنُ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ وَالتَّغْيِيرَ خِلَافَ الْأَصْلِ انْدَفَعَ كَلَامُ الْقَاضِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي شَرْحِ ثَوَابِ الْمُطِيعِينَ أُمُورًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُرَادُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا مِيَاهُ الْأَنْهَارِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ جُعِلَ النَّهْرُ اسْمًا لِمَكَانِ الْمَاءِ كَانَ الْأَمْرُ مِثْلَ مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَمَّا إِنْ جَعَلْنَاهُ فِي الْمُتَعَارَفِ اسْمًا لِذَلِكَ/ الْمَاءِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهَا بِالْخُلُودِ وَالتَّأْبِيدِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ حَيْثُ يَقُولُ: إِنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ وَعَذَابَ النَّارِ يَنْقَطِعَانِ، وَأَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَعَ الْخُلُودِ التَّأْبِيدَ، وَلَوْ كَانَ الْخُلُودُ عِبَارَةً عَنِ التَّأْبِيدِ لَزِمَ التَّكْرَارُ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَدَلَّ هَذَا أَنَّ الْخُلُودَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ التَّأْبِيدِ، بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ طُولِ الْمُكْثِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute