الْآيَاتِ يَحْسُنُ فِيهَا التَّوْحِيدُ دُونَ الْجَمْعِ، وَيُحْتَمَلُ أن يقال وَنَهَرٍ التَّنْكِيرُ لِلتَّعْظِيمِ. وَفِي الْجَنَّةِ نَهَرٌ وَهُوَ أَعْظَمُ الْأَنْهُرِ وَأَحْسَنُهَا، وَهُوَ الَّذِي مِنَ الْكَوْثَرِ، وَمِنْ عَيْنِ الرِّضْوَانِ وَكَانَ الْحُصُولُ عِنْدَهُ شَرَفًا وَغِبْطَةً وَكُلُّ أَحَدٍ يَكُونُ لَهُ مَقْعَدٌ عِنْدَهُ وَسَائِرُ الْأَنْهَارُ تَجْرِي فِي الْجَنَّةِ وَيَرَاهَا أَهْلُهَا وَلَا يَرَوْنَ الْقَاعِدَ عِنْدَهَا فَقَالَ: فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ أَيْ ذَلِكَ النَّهَرُ الَّذِي عِنْدَهُ مَقَاعِدُ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ [الْبَقَرَةِ: ٢٤٩] لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَعْلُومٍ لَهُمْ، وَفِي هَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ أَيْضًا وَلَا يُحْتَاجُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ أَنْ نَقُولَ: نَهَرٌ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ لكونه اسم جنس.
المسألة الثالثة: قال هاهنا: وَنَهَرٍ وَقَالَ فِي الذَّارِيَاتِ: وَعُيُونٍ [الذَّارِيَاتِ: ١٥] فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟
نَقُولُ: إِنَّا إِنْ قُلْنَا فِي نَهَرٍ مَعْنَاهُ فِي خِلَالٍ فَالْإِنْسَانُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا فِي خِلَالِ عُيُونٍ كَثِيرَةٍ تُحِيطُ بِهِ إِذَا كَانَ عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ وَالْعُيُونُ تَنْفَجِرُ مِنْهُ وَتَجْرِي فَتَصِيرُ أَنْهَارًا عِنْدَ الِامْتِدَادِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وفي خِلَالِ أَنْهَارٍ وَإِنَّمَا هِيَ نَهْرَانِ فَحَسْبُ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ عِنْدَ نَهَرٍ فَكَذَلِكَ وإن قلنا: ... «١» أي عَظِيمٌ عَلَيْهِ مَقَاعِدُ، فَنَقُولُ: يَكُونُ ذَلِكَ النَّهَرُ مُمْتَدًّا وَاصِلًا إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَلَهُ عِنْدَهُ مقعد عيون كَثِيرَةٌ تَابِعَةٌ، فَالنَّهَرُ لِلتَّشْرِيفِ وَالْعُيُونُ لِلتَّفَرُّجِ وَالتَّنَزُّهِ مَعَ أَنَّ النَّهَرَ الْعَظِيمَ يَجْتَمِعُ مَعَ الْعُيُونِ الْكَثِيرَةِ فَكَانَ النَّهَرُ مَعَ وَحْدَتِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْعُيُونِ مَعَ كَثْرَتِهَا وَهَذَا كُلُّهُ مَعَ النَّظَرِ إلى أواخر الآيات هاهنا وهناك يحسن ذكر لفظ الواحد هاهنا وَالْجَمْعُ هُنَاكَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قُرِئَ: فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ عَلَى أَنَّهَا جَمْعُ نَهَارٍ إِذْ لَا لَيْلَ هُنَاكَ وَعَلَى هَذَا فَكَلِمَةُ فِي حَقِيقَةٌ فِيهِ فَقَوْلُهُ: فِي جَنَّاتٍ ظَرْفُ مَكَانٍ، وَقَوْلُهُ: وَنَهَرٍ أَيْ وَفِي نَهَرٍ إِشَارَةٌ إِلَى ظَرْفِ زمان، وقرئ وَنَهَرٍ بِسُكُونِ الْهَاءِ وَضَمِّ النُّونِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ نَهَرٍ كَأُسْدٍ فِي جَمْعِ أَسَدٍ نَقَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: نُهُرٌ بِضَمِّ الْهَاءِ جَمْعُ نهر كثمر في جمع ثمر. / ثم قال تعالى:
[[سورة القمر (٥٤) : آية ٥٥]]
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ، كَيْفَ مَخْرَجُهُ؟ نَقُولُ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى صُورَةِ بَدَلٍ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: فُلَانٌ فِي بَلْدَةِ كَذَا فِي دَارِ كَذَا وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَقْعَدِ مِنْ جُمْلَةِ الْجَنَّاتِ مَوْضِعًا مُخْتَارًا لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى مَا فِي الْجَنَّاتِ مِنَ الْمَوَاضِعِ وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: عِنْدَ مَلِيكٍ لِأَنَّا بَيَّنَّا فِي أَحَدِ الْوُجُوهِ أَنَّ الْمُرَادَ من قوله: فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [القمر: ٥٤] فِي جَنَّاتٍ عِنْدَ نَهَرٍ فَقَالَ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: عِنْدَ مَلِيكٍ صِفَةُ مَقْعَدِ صِدْقٍ تَقُولُ دِرْهَمٌ في ذمة ملئ خَيْرٌ مِنْ دِينَارٍ فِي ذِمَّةِ مُعْسِرٍ، وَقَلِيلٌ عِنْدَ أَمِينٍ أَفْضَلُ مِنْ كَثِيرٍ عِنْدَ خَائِنٍ فَيَكُونُ صِفَةً وَإِلَّا لَمَا حَسُنَ جَعْلُهُ مُبْتَدَأً ثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ كَالصِّفَةِ لِجَنَّاتٍ وَنَهَرٍ أَيْ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ مَوْصُوفَيْنِ بِأَنَّهُمَا فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ، تَقُولُ: وَقْفَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّه أَفْضَلُ مِنْ كَذَا وَ: عِنْدَ مَلِيكٍ صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ يَدُلُّ عَلَى لُبْثٍ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَجْلِسُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَعَدَ وَجَلَسَ لَيْسَا عَلَى مَا يُظَنُّ أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا بَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ إِلَّا لِلْبَارِعِ، وَالْفَرْقُ هُوَ أَنَّ
(١) هنا كلمة محذوفة بالأصل لم نهتد إليها.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute