ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ [الْمَائِدَةِ: ٨٩] وَذَلِكَ عَامٌّ فِي الْحَانِثِ فِي الْخَيْرِ وَغَيْرِهِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ أَيُّوبَ حِينَ حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ أَنْ يَضْرِبَهَا وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص: ٤٤] وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْحِنْثَ كَانَ خَيْرًا مِنْ تَرْكِهِ وَأَمَرَهُ اللَّه بِضَرْبٍ لَا يَبْلُغُ مِنْهَا، وَلَوْ كَانَ الْحِنْثُ فِيهَا كَفَّارَتُهَا لَمَا أُمِرَ بِضَرْبِهَا بَلْ كَانَ يَحْنَثُ بِلَا كَفَّارَةٍ وَثَالِثُهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ»
أَمَّا الْجَوَابُ: عَمَّا ذَكَرَهُ أَوَّلًا فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ أَمْرَ الْكَفَّارَةِ فِي قِصَّةِ أَبِي بَكْرٍ لَا نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا لِأَنَّ حُكْمَهُ كَانَ مَعْلُومًا فِي سَائِرِ الْآيَاتِ وَالْجَوَابُ: عَمَّا ذَكَرَهُ ثَانِيًا
فِي قَوْلِهِ: «وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَذَلِكَ كَفَّارَتُهُ»
فَمَعْنَاهُ تَكْفِيرُ الذَّنْبِ لَا الْكَفَّارَةُ/ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ نَقْضِ الْأَيْمَانِ فَأَمَرَهُ هَاهُنَا بِالْحِنْثِ وَالتَّوْبَةِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ يُكَفِّرُ ذَنْبَهُ الَّذِي ارْتَكَبَهُ بِالْحَلِفِ.
المسألة التَّاسِعَةُ: رَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: فَضَلْتُ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَشْرِ خِصَالٍ تَزَوَّجَنِي رسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكْرًا دُونَ غَيْرِي، وَأَبَوَايَ مُهَاجِرَانِ، وَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِصُورَتِي فِي حَرِيرَةٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِي، وَكُنْتُ أَغْتَسِلُ مَعَهُ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ وَأَنَا مَعَهُ فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ، وَتَزَوَّجَنِي فِي شَوَّالٍ وَبَنَى بِي فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ، وَقُبِضَ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى عُذْرِي مِنَ السَّمَاءِ، وَدُفِنَ فِي بَيْتِي وَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يُسَاوِنِي غَيْرِي فِيهِ» وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَرَّأَ اللَّه أَرْبَعَةً بِأَرْبَعَةٍ: بَرَّأَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِلِسَانِ الشَّاهِدِ، وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَبَرَّأَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ بِالْحَجَرِ الَّذِي ذَهَبَ بِثَوْبِهِ، وَبَرَّأَ مَرْيَمَ بِإِنْطَاقِ وَلَدِهَا، وَبَرَّأَ عَائِشَةَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْعِظَامِ فِي كِتَابِهِ الْمُعْجِزِ الْمَتْلُوِّ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَرُبَتْ وَفَاةُ عَائِشَةَ جَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: يَجِيءُ الْآنَ فَيُثْنِي عَلَيَّ، فَخَبَّرَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ مَا أَرْجِعُ حَتَّى تَأْذَنَ لِي، فَأَذِنَتْ لَهُ فَدَخَلَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَعُوذُ باللَّه مِنَ النَّارِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مالك وَالنَّارَ قَدْ أَعَاذَكِ اللَّه مِنْهَا، وَأَنْزَلَ بَرَاءَتَكِ تقرأ في المساجد وطيبك فقال: الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ [النُّورِ: ٢٦] كُنْتِ أَحَبَّ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يُحِبَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا طَيِّبًا وَأُنْزِلَ بِسَبَبِكِ التَّيَمُّمُ فَقَالَ: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [النِّسَاءِ: ٤٣] وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ وَزَيْنَبَ تَفَاخَرَتَا، فَقَالَتْ زَيْنَبُ: أَنَا الَّتِي أَنْزَلَ رَبِّي تَزْوِيجِي، وَقَالَتْ عَائِشَةُ أَنَا الَّتِي بَرَّأَنِي رَبِّي حِينَ حَمَلَنِي ابْنُ الْمُعَطَّلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَقَالَتْ لَهَا زَيْنَبُ: مَا قُلْتِ حِينَ رَكِبْتِيهَا؟ قَالَتْ قُلْتُ: حَسْبِيَ اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَقَالَتْ قُلْتِ كَلِمَةَ المؤمنين.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ هَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ كُلُّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْخُصُوصُ؟ أَمَّا الْأُصُولِيُّونَ فَقَالُوا الصِّيغَةُ عَامَّةٌ وَلَا مَانِعَ مِنْ إِجْرَائِهَا عَلَى ظَاهِرِهَا فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ فَيَدْخُلُ فِيهِ قَذَفَةُ عَائِشَةَ وَقَذَفَةُ غيرها، ومن الناس من خالف فيه ذكر وُجُوهًا: أَحَدُهَا:
أَنَّ الْمُرَادَ قَذَفَةُ عَائِشَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ: «رُمِيتُ وَأَنَا غَافِلَةٌ وَإِنَّمَا بَلَغَنِي بَعْدَ ذَلِكَ، فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدِي إِذْ