للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْيَهُودِ هَذَا الْقَوْلَ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مَا دَلَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى دَلَّهُمْ عَلَى وَعِيدِ الْعُصَاةِ إِذَا كَانَ بِذَلِكَ زَجْرُهُمْ عَنِ الذُّنُوبِ، فَقَدْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَذَابُهُمْ دَائِمًا عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ الْوَعِيدِيَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأُمَمِ وَجَبَ ثُبُوتُهُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ حُكْمَهُ تَعَالَى فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ فِي الْأُمَمِ، إِذْ كَانَ قَدْرُ الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْجَمِيعِ لَا يَخْتَلِفُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ فِي نِهَايَةِ التَّعَسُّفِ فَنَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ تَعَالَى مَا وَعَدَ مُوسَى أَنَّهُ يُخْرِجُ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مِنَ النَّارِ، قَوْلُهُ: لَوْ وَعَدَهُمْ بِذَلِكَ لَمَا أَنْكَرَ عَلَى الْيَهُودِ قَوْلَهُمْ، قُلْنَا: لِمَ قُلْتَ إِنَّهُ تَعَالَى لَوْ وَعَدَهُمْ ذَلِكَ لَمَا أَنْكَرَ عَلَى الْيَهُودِ ذَلِكَ، وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الْمُلَازَمَةِ؟ ثُمَّ إِنَّا نُبَيِّنُ شَرْعًا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ قَلَّلُوا أَيَّامَ الْعَذَابِ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً، يَدُلُّ عَلَى أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ جِدًّا، فَاللَّهُ تَعَالَى أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ جَزْمَهُمْ بِهَذِهِ الْقِلَّةِ لَا أَنَّهُ تَعَالَى أَنْكَرَ عَلَيْهِمُ انْقِطَاعَ الْعَذَابِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرْجِئَةَ يَقْطَعُونَ فِي الْجُمْلَةِ بِالْعَفْوِ، فَأَمَّا فِي حَقِّ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْقَطْعِ، فَلَمَّا حَكَمُوا فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ بِالتَّخْفِيفِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ لَا جَرَمَ أَنْكَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ وَعِنْدَنَا عَذَابُ الْكَافِرِ دَائِمٌ لَا يَنْقَطِعُ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى مَا وَعَدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ يُخْرِجُ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مِنَ النَّارِ، فَلِمَ قُلْتَ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ؟ بَيَانُهُ أَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى مَا وَعَدَهُ إِخْرَاجَهُمْ مِنَ النَّارِ وَبَيْنَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَالْأَوَّلُ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى رُبَّمَا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لِمُوسَى إِلَّا أَنَّهُ سَيَفْعَلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا رَدَّ عَلَى الْيَهُودِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ جَزَمُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَكَانَ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَتَوَقَّفُوا فِيهِ وَأَنْ لَا يَقْطَعُوا لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُخْرِجُ عُصَاةَ قَوْمِ مُوسَى مِنَ النَّارِ، فَلِمَ قُلْتَ: إِنَّهُ لَا يُخْرِجُ عُصَاةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ النَّارِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْجُبَّائِيِّ: لِأَنَّ حُكْمَهُ تَعَالَى فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ فِي الْأُمَمِ. فَهُوَ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ، فَإِنَّ الْعِقَابَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَى الْبَعْضِ بِالْإِسْقَاطِ وَأَنْ لَا يَتَفَضَّلَ بِذَلِكَ عَلَى الْبَاقِينَ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ/ ضَعِيفٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ فَهُوَ بَيَانٌ لِتَمَامِ الْحُجَّةِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ لَا طَرِيقَ إِلَى التَّقْدِيرِ الْمَذْكُورِ إِلَّا السَّمْعُ وَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ السَّمْعُ، كَانَ الْجَزْمُ بِذَلِكَ التَّقْدِيرِ قَوْلًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا لَا مَحَالَةَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى فَوَائِدَ.

أَحُدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَابَ عَلَيْهِمُ الْقَوْلَ الَّذِي قَالُوهُ لَا عَنْ دَلِيلٍ عَلِمْنَا أَنَّ الْقَوْلَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ بَاطِلٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ عَقْلًا لَمْ يَجُزِ الْمَصِيرُ إِلَى الْإِثْبَاتِ أَوْ إِلَى النَّفْيِ إِلَّا بِدَلِيلٍ سَمْعِيٍّ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. قَالُوا: لِأَنَّ الْقِيَاسَ وَخَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ التَّمَسُّكُ بِهِ جَائِزًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الْإِنْكَارِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَمَّا دَلَّتِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ عِنْدَ حُصُولِ الظَّنِّ الْمُسْتَنِدِ إِلَى الْقِيَاسِ أَوْ إِلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ كَانَ وُجُوبُ الْعَمَلِ مَعْلُومًا، فَكَانَ الْقَوْلُ بِهِ قَوْلًا بِالْمَعْلُومِ لا بغير المعلوم.

[[سورة البقرة (٢) : آية ٨١]]

بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١)

قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: «بَلَى» إِثْبَاتٌ لِمَا بَعْدَ حَرْفِ النَّفْيِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ، أَيْ بَلَى تَمَسُّكُمْ أَبَدًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: هُمْ فِيها خالِدُونَ. أَمَّا السَّيِّئَةُ فَإِنَّهَا تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَعَاصِي. قَالَ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: ٤٠] ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النِّسَاءِ: ١٢٣] وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ كُلَّ سَيِّئَةٍ صَغُرَتْ أَوْ كَبُرَتْ فَحَالُهَا سَوَاءٌ فِي أَنَّ فَاعِلَهَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ لَا جَرَمَ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الخلود