للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَثِيفَةَ الْأَجْسَامِ، وَزَعَمَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُشَاهِدُونَهُمْ فِي زَمَنِ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَمَاتَ اللَّهُ أُولَئِكَ الْجِنَّ وَالشَّيَاطِينَ، وَخَلَقَ نَوْعًا آخَرَ مِنَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ تَكُونُ أَجْسَامُهُمْ فِي غَايَةِ الرِّقَّةِ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْقُوَّةِ، وَالْمَوْجُودُ فِي زَمَانِنَا مِنَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ لَيْسَ إِلَّا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هَذَا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَعْطِ مَنْ شِئْتَ وَامْنَعْ مَنْ شِئْتَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، أَيْ لَيْسَ عَلَيْكَ حَرَجٌ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَفِيمَا أَمْسَكْتَ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا فِي أَمْرِ الشَّيَاطِينِ خَاصَّةً، وَالْمَعْنَى هَؤُلَاءِ الشَّيَاطِينُ الْمُسَخَّرُونَ عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ عَلَى مَنْ شِئْتَ مِنَ الشَّيَاطِينِ فَحُلَّ عَنْهُ، وَاحْبِسْ مَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ فِي الْعَمَلِ بِغَيْرِ حِسَابٍ.

وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى سُلَيْمَانَ فِي الدُّنْيَا، أَرْدَفَهُ بِإِنْعَامِهِ عليه في الآخرة، فقال: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ وَقَدْ سبق تفسيره.

[سورة ص (٣٨) : الآيات ٤١ الى ٤٤]

وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)

[القصة الثالثة]

[في قوله تعالى وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إلى قوله بِنُصْبٍ وَعَذابٍ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ الثَّالِثَةُ مِنَ الْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ كَانَا مِمَّنْ أَفَاضَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَصْنَافَ الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ، وَأَيُّوبَ كَانَ مِمَّنْ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْقِصَصِ الِاعْتِبَارُ. كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ اصْبِرْ عَلَى سَفَاهَةِ قَوْمِكَ فَإِنَّهُ مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا أَكْثَرُ نِعْمَةً وَمَالًا وَجَاهًا مِنْ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ بَلَاءً وَمِحْنَةً مِنْ أَيُّوبَ، فَتَأَمَّلْ فِي أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ لِتَعْرِفَ أَنَّ أَحْوَالَ الدُّنْيَا لَا تَنْتَظِمُ لِأَحَدٍ، وَأَنَّ الْعَاقِلَ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَيُّوبَ عَطْفُ بَيَانٍ، وَإِذْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْهُ أَنِّي مَسَّنِيَ أَيْ بِأَنِّي مَسَّنِي حِكَايَةً لِكَلَامِهِ الَّذِي نَادَاهُ بِسَبَبِهِ، وَلَوْ لَمْ يَحْكِ لَقَالَ بِأَنَّهُ مَسَّهُ لأنه غائب، وقرء: بِنُصْبٍ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِهَا مَعَ سُكُونِ الصَّادِ وَفَتْحِهَا وَضَمِّهَا، فَالنُّصْبِ وَالنَّصَبِ، كَالرُّشْدِ وَالرَّشَدِ، وَالْعُدْمِ وَالْعَدَمِ، وَالسُّقْمِ وَالسَّقَمِ، وَالنُّصْبُ، عَلَى أَصْلِ الْمَصْدَرِ، وَالنَّصَبُ تَثْقِيلُ نُصْبٍ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَهُوَ التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ وَالْعَذَابُ وَالْأَلَمُ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ قَدْ حَصَلَ عِنْدَهُ نَوْعَانِ مِنَ الْمَكْرُوهِ: الْغَمُّ الشَّدِيدُ بِسَبَبِ زَوَالِ الْخَيْرَاتِ وَحُصُولِ الْمَكْرُوهَاتِ، وَالْأَلَمُ الشَّدِيدُ فِي الْجِسْمِ وَلَمَّا حَصَلَ هَذَانِ النَّوْعَانِ لَا جَرَمَ، ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَفْظَيْنِ وَهُمَا النُّصْبُ وَالْعَذَابُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآلَامَ وَالْأَسْقَامَ الْحَاصِلَةَ فِي جِسْمِهِ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِفِعْلِ الشَّيْطَانِ الثَّانِي: أَنَّهَا إِنَّمَا حَصَلَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ، وَالْعَذَابُ الْمُضَافُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الشَّيْطَانِ هُوَ عَذَابُ الْوَسْوَسَةِ، وَإِلْقَاءُ الْخَوَاطِرِ الْفَاسِدَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>