وَالنَّقْدُ يَصْعُبُ بَيْعُهُ بِالنَّسِيئَةِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ أَعْطِنِي يَا رَبِّ مَمْلَكَةً تَكُونُ أَعْظَمَ الْمَمَالِكِ الْمُمْكِنَةِ لِلْبَشَرِ، حَتَّى أَنِّي أَبْقَى مَعَ تِلْكَ الْقُدْرَةِ الْكَامِلَةِ فِي غَايَةِ الِاحْتِرَازِ عَنْهَا لِيَظْهَرَ لِلْخَلْقِ أَنَّ حُصُولَ الدُّنْيَا لَا يَمْنَعُ مِنْ خِدْمَةِ الْمَوْلَى الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الدُّنْيَا يَبْقَى مُلْتَفِتَ الْقَلْبِ إِلَيْهَا فَيَظُنُّ أَنَّ فِيهَا سِعَادَاتٍ عَظِيمَةً وَخَيْرَاتٍ نَافِعَةً، فَقَالَ سُلَيْمَانُ يَا رَبِّ الْعِزَّةِ أَعْطِنِي أَعْظَمَ الْمَمَالِكِ حَتَّى يَقِفَ النَّاسُ عَلَى كَمَالِ حَالِهَا، فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ لِلْعَقْلِ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا فَائِدَةٌ وَحِينَئِذٍ يُعْرِضُ الْقَلْبُ عَنْهَا وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، وَأَشْتَغِلُ بِالْعُبُودِيَّةِ سَاكِنَ النَّفْسِ غَيْرَ مَشْغُولِ الْقَلْبِ بِعَلَائِقِ الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ رُخَاءً أَيْ رَخْوَةً لَيِّنَةً وَهِيَ مِنَ الرَّخَاوَةِ وَالرِّيحُ إِذَا كَانَتْ لَيِّنَةً لَا تُزَعْزِعُ وَلَا تَمْتَنِعُ عَلَيْهِ كَانَتْ طَيِّبَةً، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ قُلْنَا الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ تِلْكَ الرِّيحَ كَانَتْ فِي قُوَّةِ الرِّيَاحِ الْعَاصِفَةِ إِلَّا أَنَّهَا لَمَّا جَرَتْ بِأَمْرِهِ كَانَتْ لَذِيذَةً طَيِّبَةً فَكَانَتْ رخاء والوجه الثاني: من الْجَوَابِ أَنَّ تِلْكَ الرِّيحَ كَانَتْ لَيِّنَةً مَرَّةً وَعَاصِفَةً أُخْرَى وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: حَيْثُ أَصابَ أَيْ قَصَدَ وَأَرَادَ، وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ أَصَابَ الصَّوَابَ فَأَخْطَأَ الْجَوَابَ. وَعَنْ رُؤْبَةَ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ قَصَدَاهُ لِيَسْأَلَاهُ عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا، فَقَالَ أَيْنَ تُصِيبَانِ؟ فَقَالَا هَذَا مَطْلُوبُنَا. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الرِّيحَ مُسَخَّرَةً لَهُ حَتَّى صَارَتْ تَجْرِي بِأَمْرِهِ عَلَى وَفْقِ إِرَادَتِهِ، ثُمَّ قَالَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الشَّيَاطِينُ عَطْفٌ عَلَى الرِّيحِ وَكُلُّ بَنَّاءٍ بَدَلٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَآخِرِينَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: كُلَّ بَنَّاءٍ وَهُوَ بَدَلُ الْكُلِّ مِنَ الْكُلِّ كَانُوا يَبْنُونَ لَهُ مَا شَاءَ مِنَ الْأَبْنِيَةِ وَيَغُوصُونَ لَهُ فَيَسْتَخْرِجُونَ اللُّؤْلُؤَ، وَقَوْلُهُ: مُقَرَّنِينَ يُقَالُ قَرْنَهُمْ فِي الْحِبَالِ وَالتَّشْدِيدُ لِلْكَثْرَةِ والْأَصْفادِ الْأَغْلَالُ وَاحِدُهَا صَفَدٌ وَالصَّفَدُ الْعَطِيَّةُ أَيْضًا، قَالَ النَّابِغَةُ:
وَلَمْ أُعَرِّضْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ بِالصَّفَدِ
فَعَلَى هَذَا الصَّفَدِ الْقَيْدُ فَكُلُّ مَنْ شَدَدْتَهُ شَدًّا وَثِيقًا فَقَدْ صَفَّدْتَهُ، وَكُلُّ مَنْ أعطيته عطاء جزيلا فقد أصفدته، وهاهنا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الشَّيَاطِينَ لَهَا قُوَّةٌ عَظِيمَةٌ، وَبِسَبَبِ تِلْكَ الْقُوَّةِ قَدَرُوا عَلَى بِنَاءِ الْأَبْنِيَةِ الْقَوِيَّةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا الْبَشَرُ، وَقَدَرُوا/ عَلَى الْغَوْصِ فِي الْبِحَارِ، وَاحْتَاجَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى قَيْدِهِمْ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنْ هَذِهِ الشَّيَاطِينَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَجْسَادُهُمْ كَثِيفَةً أَوْ لَطِيفَةً، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ وَجَبَ أَنْ يَرَاهُمْ مَنْ كَانَ صَحِيحَ الْحَاسَّةِ، إِذْ لَوْ جَازَ أَنْ لَا نَرَاهُمْ مَعَ كَثَافَةِ أَجْسَادِهِمْ، فَلْيَجُزْ أَنْ تَكُونَ بِحَضْرَتِنَا جِبَالٌ عَالِيَةٌ وَأَصْوَاتٌ هَائِلَةٌ وَلَا نَرَاهَا وَلَا نَسْمَعُهَا، وَذَلِكَ دُخُولٌ فِي السَّفْسَطَةِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ أَجْسَادَهُمْ لَيْسَتْ كَثِيفَةً، بَلْ لَطِيفَةً رَقِيقَةً، فَمِثْلُ هَذَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالْقُوَّةِ الشَّدِيدَةِ، وَأَيْضًا لَزِمَ أَنْ تَتَفَرَّقَ أَجْسَادُهُمْ وَأَنْ تَتَمَزَّقَ بِسَبَبِ الرِّيَاحِ الْقَوِيَّةِ وَأَنْ يَمُوتُوا فِي الْحَالِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ وَصْفِهِمْ بِبِنَاءِ الْأَبْنِيَةِ الْقَوِيَّةِ، وَأَيْضًا الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ إِنْ كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، فَلِمَ لَا يَقْتُلُونَ الْعُلَمَاءَ وَالزُّهَّادَ فِي زَمَانِنَا؟ وَلِمَ لَا يُخَرِّبُونَ دِيَارَ النَّاسِ؟ مَعَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مُبَالِغُونَ فِي إِظْهَارِ لَعْنِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ. وَحَيْثُ لَمْ يُحَسَّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، عَلِمْنَا أَنَّ الْقَوْلَ بِإِثْبَاتِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ ضَعِيفٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا يُجَوِّزُونَ أَنْ تَكُونَ أَجْسَامُهُمْ كَثِيفَةً مَعَ أَنَّا لَا نَرَاهَا، وَأَيْضًا لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ أَجْسَامُهُمْ لَطِيفَةٌ بِمَعْنَى عَدَمِ اللَّوْنِ، وَلَكِنَّهَا صُلْبَةٌ بِمَعْنَى أَنَّهَا لَا تَقْبَلُ التَّفَرُّقَ وَالتَّمَزُّقَ. وَأَمَّا الْجُبَّائِيُّ فَقَدْ سَلَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute