للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالسَّلَامُ، وَأَنَّهُمْ إِذَا جَاءُوهُ فَقَدْ جَاءُوا مَنْ خَصَّهُ اللَّه بِرِسَالَتِهِ وَأَكْرَمَهُ بِوَحْيِهِ وَجَعَلَهُ سَفِيرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّه لَا يَرُدُّ شَفَاعَتَهُ، فَكَانَتِ الْفَائِدَةُ فِي الْعُدُولِ عَنْ لَفْظِ الْخِطَابِ إِلَى لَفْظِ الْمُغَايَبَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى الْجَزْمِ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَةَ التَّائِبِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ عَنْهُمُ الِاسْتِغْفَارَ قَالَ بَعْدَهُ: لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً وَهَذَا الْجَوَابُ إِنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ:

تَوَّاباً رَحِيماً هُوَ أَنْ يَقْبَلَ تَوْبَتَهُمْ وَيَرْحَمَ تَضَرُّعَهُمْ/ وَلَا يَرُدَّ اسْتِغْفَارَهُمْ.

[[سورة النساء (٤) : آية ٦٥]]

فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥)

فِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَازِلَةٌ فِي قِصَّةِ الْيَهُودِيِّ وَالْمُنَافِقِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدِي. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُسْتَأْنَفَةٌ نَازِلَةٌ فِي قِصَّةٍ أُخْرَى، وَهُوَ مَا

رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي مَاءٍ يَسْقِي بِهِ النَّخْلَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ: «اسْقِ أَرْضَكَ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى أَرْضِ جَارِكَ» فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: لِأَجْلِ أَنَّهُ ابْنُ عَمَّتِكَ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ لِلزُّبَيْرِ: «اسْقِ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْجُدُرَ» .

وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ فِي هَذَا أَنَّ مَنْ كَانَتْ أَرْضُهُ أَقْرَبَ إِلَى فَمِ الْوَادِي فَهُوَ أَوْلَى بِأَوَّلِ الْمَاءِ وَحَقُّهُ تَمَامُ السَّقْيِ، فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِلزُّبَيْرِ فِي السَّقْيِ عَلَى وَجْهِ الْمُسَامَحَةِ، فَلَمَّا أَسَاءَ خَصْمُهُ الْأَدَبَ وَلَمْ يَعْرِفْ حَقَّ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عليه وسلم من المسامحة لا جله أَمَرَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ، وَحَمْلِ خَصْمِهِ عَلَى مُرِّ الْحَقِّ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: «لَا» فِي قَوْلِهِ: فَلا وَرَبِّكَ فيه قولان: الأول: معناه فو ربك، كقوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الْحِجْرِ: ٩٢] وَ «لَا» مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْقَسَمِ، كَمَا زِيدَتْ فِي لِئَلَّا يَعْلَمَ لِتَأْكِيدِ وجوب العلم ولا يُؤْمِنُونَ جَوَابُ الْقَسَمِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُفِيدَةٌ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُفِيدُ نَفْيَ أَمْرٍ سَبَقَ، وَالتَّقْدِيرُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَهُمْ يُخَالِفُونَ حُكْمَكَ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْقَسَمَ بِقَوْلِهِ: فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ وَالثَّانِي: أَنَّهَا لِتَوْكِيدِ النَّفْيِ الَّذِي جَاءَ فِيمَا بَعْدُ، لِأَنَّهُ إِذَا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ وَفِي آخِرِهِ كَانَ أَوْكَدَ وَأَحْسَنَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُقَالُ شَجَرَ يَشْجُرُ شُجُورًا وَشَجَرًا إِذَا اخْتَلَفَ وَاخْتَلَطَ، وَشَاجَرَهُ إِذَا نَازَعَهُ وَذَلِكَ لِتَدَاخُلِ كَلَامِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ عِنْدِ الْمُنَازَعَةِ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِخَشَبَاتِ الْهَوْدَجِ شِجَارٌ، لتداخل/ بعضها في بعض. قال أبو مسلم الأصفهاني: وَهُوَ مَأْخُوذٌ عِنْدِي مِنَ الْتِفَافِ الشَّجَرِ، فَإِنَّ الشَّجَرَ يَتَدَاخَلُ بَعْضُ أَغْصَانِهِ فِي بَعْضٍ، وَأَمَّا الْحَرَجُ فَهُوَ الضِّيقُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُقَالُ لِلشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ الَّذِي لَا يَكَادُ يُوصَلُ إِلَيْهِ: حَرَجٌ، وَجَمْعُهُ حَرَاجٌ، وَأَمَّا التَّسْلِيمُ فَهُوَ تَفْعِيلٌ يُقَالُ: سَلِمَ فُلَانٌ أَيْ عُوفِيَ وَلَمْ يَنْشَبْ بِهِ نَائِبَةٌ، وَسَلِمَ هَذَا الشَّيْءُ لِفُلَانٍ، أَيْ خَلُصَ لَهُ مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ، فَإِذَا ثَقَّلْتَهُ بِالتَّشْدِيدِ فَقُلْتَ: سَلَّمَ لَهُ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ سَلَّمَهُ لَهُ وَخَلَّصَهُ لَهُ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي اللُّغَةِ، وَجَمِيعُ اسْتِعْمَالَاتِ التَّسْلِيمِ رَاجِعٌ إِلَى الْأَصْلِ فَقَوْلُهُمْ: سَلَّمَ عَلَيْهِ، أَيْ دَعَا لَهُ بِأَنْ يَسْلَمَ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ الْوَدِيعَةَ، أَيْ دَفَعَهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>