للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مَا قَالَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه: وَهُوَ أَنَّ هَذَا نَهْيٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُ: قَدْ بَيِّنْتُ لَكُمْ أَخْلَاقَ الْمُنَافِقِينَ وَمَذَاهِبَهُمْ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً.

فَإِنْ حَمَلْنَا الْآيَةَ الْأُولَى عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ أَتُرِيدُونَ/ أَنْ تَجْعَلُوا للَّه سُلْطَانًا مُبِينًا عَلَى كَوْنِكُمْ مُنَافِقِينَ، وَالْمُرَادُ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِأَهْلِ دِينِ اللَّه وَهُمُ الرَّسُولُ وَأُمَّتُهُ، وَإِنْ حَمَلْنَا الْآيَةَ الْأُولَى عَلَى الْمُنَافِقِينَ كَانَ الْمَعْنَى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا للَّه عَلَيْكُمْ فِي عِقَابِكُمْ حُجَّةً بِسَبَبِ مُوَالَاتِكُمْ لِلْمُنَافِقِينَ ثُمَّ قَالَ تعالى:

[[سورة النساء (٤) : آية ١٤٥]]

إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ] وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ اللَّيْثُ: الدَّرْكُ أَقْصَى قَعْرِ الشَّيْءِ كَالْبَحْرِ وَنَحْوِهِ، فَعَلَى هَذَا الْمُرَادُ بِالدَّرْكِ الْأَسْفَلِ أَقْصَى قَعْرِ جَهَنَّمَ، وَأَصْلُ هَذَا مِنَ الْإِدْرَاكِ بِمَعْنَى اللُّحُوقِ، وَمِنْهُ إِدْرَاكُ الطَّعَامِ وَإِدْرَاكُ الْغُلَامِ، فَالدَّرْكُ مَا يُلْحَقُ بِهِ مِنَ الطَّبَقَةِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ جَهَنَّمَ طَبَقَاتٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَشَدَّهَا أَسْفَلُهَا. قَالَ الضَّحَّاكُ: الدَّرَجُ إِذَا كَانَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَالدَّرْكُ إِذَا كَانَ بَعْضُهَا أَسْفَلَ مِنْ بَعْضٍ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ فِي الدَّرْكِ بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، قَالَ الزَّجَّاجُ: هُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ الشَّمْعِ وَالشَّمَعِ، إِلَّا أَنَّ الِاخْتِيَارَ فَتْحُ الرَّاءِ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: جَمْعُ الدَّرَكِ أَدْرَاكٌ كَقَوْلِهِمْ: جَمَلٌ وأجمل، وفرس وأفرس، وَجَمْعُ الدَّرْكِ أَدْرُكٌ مِثْلَ فَلْسٍ وَأَفْلُسٌ وَكَلْبٍ وَأَكْلُبٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ إِنَّهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ، وَقَالَ فِي آلِ فِرْعَوْنَ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غَافِرٍ: ٤٦] فَأَيُّهُمَا أَشَدُّ عَذَابًا، الْمُنَافِقُونَ أَمْ آلُ فِرْعَوْنَ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ أَشَدَّ الْعَذَابِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ الْفَرِيقَانِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَمَّا كَانَ الْمُنَافِقُ أَشَدَّ عَذَابًا مِنَ الْكَافِرِ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الْكُفْرِ، وَضُمَّ إِلَيْهِ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْكُفْرِ، وَهُوَ الِاسْتِهْزَاءُ بِالْإِسْلَامِ وَبِأَهْلِهِ، وَبِسَبَبِ أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ يُمْكِنُهُمُ الِاطِّلَاعُ عَلَى أَسْرَارِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ يُخْبِرُونَ الْكُفَّارَ بِذَلِكَ فَكَانَتْ تَتَضَاعَفُ الْمِحْنَةُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ، فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ جَعَلَ اللَّه عَذَابَهُمْ أَزْيَدَ مِنْ عَذَابِ الْكُفَّارِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً وَهَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذَا عَلَى إِثْبَاتِ الشَّفَاعَةِ فِي حَقِّ الْفُسَّاقِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْمُنَافِقِينَ بِهَذَا التَّهْدِيدِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ حَاصِلًا فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ زَجْرًا عَنِ النِّفَاقِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ نِفَاقٌ، وَلَيْسَ هَذَا اسْتِدْلَالًا بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، بَلْ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الزَّجْرِ عَنِ النِّفَاقِ، فَلَوْ حَصَلَ ذَلِكَ مَعَ عَدَمِهِ لَمْ يَبْقَ زَجْرًا عَنْهُ مِنْ حيث إنه نفاق ثم قال تعالى:

<<  <  ج: ص:  >  >>