للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمَّا الْكَلَامُ فِي لَفْظَةِ (لَدُنْ) فَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِهِ هَاهُنَا أَنَّ حُصُولَ الْوَلَدِ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لَهُ أَسْبَابٌ مَخْصُوصَةٌ فَلَمَّا طَلَبَ الْوَلَدَ مَعَ فُقْدَانِ تِلْكَ الْأَسْبَابِ كَانَ الْمَعْنَى: أُرِيدُ مِنْكَ إِلَهِي أَنْ تَعْزِلَ الْأَسْبَابَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ وَأَنْ تُحْدِثَ هَذَا الْوَلَدَ بِمَحْضِ قُدْرَتِكَ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأسباب.

المسألة الثانية: لذرية النَّسْلُ، وَهُوَ لَفْظٌ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ، وَالْجَمْعِ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هَاهُنَا: وَلَدٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مَرْيَمَ: ٥] قَالَ الْفَرَّاءُ: وَأَنَّثَ طَيِّبَةً لِتَأْنِيثِ الذُّرِّيَّةِ فِي الظَّاهِرِ، فَالتَّأْنِيثُ وَالتَّذْكِيرُ تَارَةً يَجِيءُ عَلَى اللَّفْظِ، وَتَارَةً عَلَى الْمَعْنَى، وَهَذَا إِنَّمَا نَقُولُهُ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، أَمَّا فِي أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ فَلَا، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ جَاءَتْ طَلْحَةُ، لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْأَعْلَامِ لَا تُفِيدُ إِلَّا ذَلِكَ الشَّخْصَ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الشَّخْصُ مُذَكَّرًا لَمْ يَجُزْ فِيهَا إِلَّا التَّذْكِيرُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَسْمَعَ صَوْتَ الدُّعَاءِ فَذَلِكَ مَعْلُومٌ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يُجِيبَ دُعَاءَهُ وَلَا يُخَيِّبَ رَجَاءَهُ، وَهُوَ كَقَوْلِ الْمُصَلِّينَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، يُرِيدُونَ قَبِلَ حَمْدَ مَنْ حَمِدَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا مُتَأَكِّدٌ بِمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [مريم: ٤]

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]

فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠)

[في قوله تعالى فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ] وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: فَنَادَاهُ الْمَلَائِكَةُ، عَلَى التَّذْكِيرِ وَالْإِمَالَةِ، وَالْبَاقُونَ عَلَى التَّأْنِيثِ عَلَى اللَّفْظِ، وَقِيلَ: مَنْ ذَكَّرَ فَلِأَنَّ الْفِعْلَ قَبْلَ الِاسْمِ، وَمَنْ أَنَّثَ فَلِأَنَّ الْفِعْلَ لِلْمَلَائِكَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ الْمِحْرَابَ بِالْإِمَالَةِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّفْخِيمِ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَنَادَاهُ جِبْرِيلُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّدَاءَ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا فِي التَّشْرِيفِ أَعْظَمُ، فَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ مُنْفَصِلٌ أَنَّ الْمُنَادِيَ كَانَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَطْ صِرْنَا إِلَيْهِ. وَحَمَلْنَا هَذَا اللَّفْظَ عَلَى التَّأْوِيلِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ:

فُلَانٌ يَأْكُلُ الْأَطْعِمَةَ الطَّيِّبَةَ، وَيَلْبَسُ الثِّيَابَ النَّفِيسَةَ، أَيْ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَيَلْبَسُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، مَعَ أَنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ جَمِيعَ الْأَطْعِمَةِ، وَلَمْ يَلْبَسْ جَمِيعَ الْأَثْوَابِ، فَكَذَا هَاهُنَا، وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آلِ عِمْرَانَ: ١٧٣] وَهُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ/ إِنَّ النَّاسَ: يَعْنِي أَبَا سُفْيَانَ، قَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ سَلَمَةَ: إِذَا كَانَ الْقَائِلُ رَئِيسًا جَازَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِالْجَمْعِ لِاجْتِمَاعِ أَصْحَابِهِ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ جِبْرِيلُ رَئِيسَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَلَّمَا يُبْعَثُ إِلَّا وَمَعَهُ جَمْعٌ صَحَّ ذَلِكَ.

أَمَّا قَوْلُهُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ مَشْرُوعَةً فِي دِينِهِمْ، وَالْمِحْرَابُ قَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَاهُ.