مَحْذُوفًا رَأْسًا لِيَفْرِضَ السَّامِعُ بَعْدَهُ كُلَّ هَائِلٍ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: إِذَا غَضِبَ السُّلْطَانُ عَلَى فُلَانٍ لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَاذَا يَفْعَلُهُ، ثُمَّ رُبَّمَا يَسْكُتُ عِنْدَ قَوْلِهِ إِذَا غَضِبَ السُّلْطَانُ مُتَعَجِّبًا آتِيًا بِقَرِينَةٍ دَالَّةٍ عَلَى تَهْوِيلِ الْأَمْرِ، لِيَذْهَبَ السَّامِعُ مَعَ كُلِّ مَذْهَبٍ، وَيَقُولُ: كَأَنَّهُ إِذَا غَضِبَ السُّلْطَانُ يَقْتُلُ وَيَقُولُ الْآخَرُ: إِذَا غَضِبَ السُّلْطَانُ يَنْهَبُ وَيَقُولُ الْآخَرُ غَيْرَ ذَلِكَ وَثَانِيهِمَا: مَا بَيَّنَّا مِنْ بَيَانِ عَدَمِ الِانْتِصَارِ وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ إِلَى أَنْ قَالَ تَعَالَى: وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً [الْفُرْقَانِ: ٢٥، ٢٦] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى/ قَالَ: إِذَا أرسل عليهم شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٍ فَلَا يَنْتَصِرَانِ، فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ كَيْفَ يَنْتَصِرَانِ؟ فَيَكُونُ الْأَمْرُ عَسِيرًا، فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ يَكُونُ الْأَمْرُ عَسِيرًا فِي غَايَةِ الْعُسْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ يَلْقَى الْمَرْءُ فِعْلَهُ وَيُحَاسَبُ حِسَابَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ إلى أن قال: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الِانْشِقَاقِ: ١- ٦] الْآيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْمَعْنَى مِنَ الِانْشِقَاقِ؟ نَقُولُ: حَقِيقَتُهُ ذَوَبَانُهَا وَخَرَابُهَا كَمَا قَالَ تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ [السماء: ١٠٤] إِشَارَةً إِلَى خَرَابِهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: انْشَقَّتْ بِالْغَمَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الفرقان: ٢٥] وَفِيهِ وُجُوهٌ مِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ: بِالْغَمامِ أَيْ مع الغمام فيكون مثل ما ذكرنا هاهنا مِنَ الِانْفِطَارِ وَالْخَرَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ؟ نَقُولُ: الْمَشْهُورُ أَنَّهَا فِي الْحَالِ تَكُونُ حَمْرَاءَ يُقَالُ: فَرَسٌ وَرْدٌ إِذَا أُثْبِتَ لِلْفَرَسِ الْحُمْرَةُ، وَحُجْرَةٌ وَرْدَةٌ أَيْ حَمْرَاءُ اللَّوْنِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لَهِيبَ النَّارِ يَرْتَفِعُ فِي السَّمَاءِ فَتَذُوبُ فَتَكُونُ كَالصُّفْرِ الذَّائِبِ حَمْرَاءَ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: وَرْدَةٌ لِلْمَرَّةِ مِنَ الْوُرُودِ كَالرَّكْعَةِ وَالسَّجْدَةِ وَالْجَلْسَةِ وَالْقَعْدَةِ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْجُلُوسِ وَالْقُعُودِ، وَحِينَئِذٍ الضَّمِيرُ فِي كَانَتْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً [يس: ٥٣] أَيِ الكائنة أو الداهية وأنت الضَّمِيرَ لِتَأْنِيثِ الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا مُذَكَّرًا، فكذا هاهنا قَالَ: فَكانَتْ وَرْدَةً وَاحِدَةً أَيِ الْحَرَكَةُ الَّتِي بِهَا الِانْشِقَاقُ كَانَتْ وَرْدَةً وَاحِدَةً، وَتَزَلْزَلَ الْكُلُّ وَخَرِبَ دُفْعَةً، وَالْحَرَكَةُ مَعْلُومَةٌ بِالِانْشِقَاقِ لِأَنَّ الْمُنْشَقَّ يَتَحَرَّكُ، وَيَتَزَلْزَلُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
كَالدِّهانِ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: جَمْعُ دُهْنٍ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الدِّهَانَ هُوَ الْأَدِيمُ الْأَحْمَرُ، فَإِنْ قِيلَ: الْأَدِيمُ الْأَحْمَرُ مُنَاسِبٌ لِلْوَرْدَةِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ كَانَتِ السَّمَاءُ كَالْأَدِيمِ الْأَحْمَرِ، وَلَكِنْ مَا الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْوَرْدَةِ وَبَيْنَ الدِّهَانِ؟ نَقُولُ:
الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنَ الدِّهَانِ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ [الْمَعَارِجِ: ٨] وَهُوَ عَكَرُ الزَّيْتِ وَبَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةٌ، فَإِنَّ الْوَرْدَ يُطْلَقُ عَلَى الْأَسَدِ فَيُقَالُ: أَسَدٌ وَرْدٌ، فَلَيْسَ الْوَرْدُ هُوَ الْأَحْمَرَ الْقَانِي وَالثَّانِي: أَنَّ التَّشْبِيهَ بِالدُّهْنِ لَيْسَ فِي اللَّوْنِ بَلْ فِي الذَّوَبَانِ وَالثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الدُّهْنَ الْمُذَابَ يَنْصَبُّ انْصِبَابَةً وَاحِدَةً وَيَذُوبُ دُفْعَةً وَالْحَدِيدُ وَالرَّصَاصُ لَا يَذُوبُ غَايَةَ الذَّوَبَانِ، فَتَكُونُ حَرَكَةُ الدُّهْنِ بَعْدَ الذَّوَبَانِ أَسْرَعَ مِنْ حَرَكَةِ غَيْرِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ حَرَكَتُهَا تَكُونُ وَرْدَةً وَاحِدَةً كَالدِّهَانِ الْمَصْبُوبَةِ صَبًّا لَا كَالرَّصَاصِ الَّذِي يَذُوبُ مِنْهُ أَلْطَفُهُ وَيُنْتَفَعُ بِهِ وَيَبْقَى الْبَاقِي، وَكَذَلِكَ الْحَدِيدُ وَالنُّحَاسُ، وَجَمَعَ الدِّهَانَ لِعَظَمَةِ السَّمَاءِ وَكَثْرَةِ مَا يَحْصُلُ مِنْ ذَوَبَانِهَا لِاخْتِلَافِ أجزائها، فإن الكواكب تخالف غيرها. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute