هِيَ الْعِلْمُ وَالْمَعْرِفَةُ، وَقَوْلُهُ: فَهَدَى اللَّهُ نَصٌّ فِي أَنَّ الْهِدَايَةَ حَصَلَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ ضَعِيفٌ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْهِدَايَةَ غَيْرٌ، وَالِاهْتِدَاءَ غَيْرٌ، وَالَّذِي يدل هاهنا عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ عِبَارَةً عَنِ الْإِيمَانِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْهِدَايَةَ إِلَى الْإِيمَانِ غَيْرُ/ الْإِيمَانِ كَمَا أَنَّ التَّوْفِيقَ لِلْإِيمَانِ غَيْرُ الْإِيمَانِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: بِإِذْنِهِ وَلَا يُمْكِنُ صَرْفُ هَذَا الْإِذْنِ إِلَى قَوْلِهِ: فَهَدَى اللَّهُ إِذْ لَا جَائِزَ أَنْ يَأْذَنَ لِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ هاهنا مِنْ إِضْمَارٍ لِيَصْرِفَ هَذَا الْإِذْنَ إِلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ فَاهْتَدَوْا بِإِذْنِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الْهِدَايَةُ مُغَايِرَةً لِلِاهْتِدَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَخُصُّ الْمُؤْمِنَ بِهِدَايَاتٍ لَا يَفْعَلُهَا فِي حَقِّ الْكَافِرِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ اخْتُصُّوا بِالِاهْتِدَاءِ فَجَعَلَ هِدَايَةً لَهُمْ خَاصَّةً كَقَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢] ثُمَّ قَالَ: هُدىً لِلنَّاسِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: الْهِدَايَةُ إِلَى الثَّوَابِ وطريقة الْجَنَّةِ وَثَالِثُهَا: هَدَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ بِالْأَلْطَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْ إِلَى مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَعُودُونَ لِما قالُوا [الْمُجَادَلَةِ: ٣] أَيْ إِلَى مَا قَالُوا وَيُقَالُ: هدايته الطَّرِيقَ وَلِلطَّرِيقِ وَإِلَى الطَّرِيقِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ فَهَدَاهُمْ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، وَلَمْ يَقُلْ: هَدَاهُمْ لِلْحَقِّ فِيمَا اخْتَلَفُوا وَقَدَّمَ الِاخْتِلَافَ؟
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْعِنَايَةُ بِذِكْرِ الِاخْتِلَافِ لَهُمْ بَدَأَ بِهِ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِمَنْ هَدَاهُ الثَّانِي:
قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ، أَيْ فَهَدَاهُمْ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: بِإِذْنِهِ فِيهِ وجهان أحدها: قَالَ الزَّجَّاجُ بِعِلْمِهِ الثَّانِي: هَدَاهُمْ بِأَمْرِهِ أَيْ حَصَلَتِ الْهِدَايَةُ بِسَبَبِ الْأَمْرِ كَمَا يُقَالُ: قَطَعْتُ بِالسِّكِّينِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَكُنْ مُتَمَيِّزًا عَنِ الْبَاطِلِ وَبِالْأَمْرِ حَصَلَ التَّمْيِيزُ فَجُعِلَتِ الْهِدَايَةُ بِسَبَبِ إِذْنِهِ الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِضْمَارٍ وَالتَّقْدِيرُ: هَدَاهُمْ فَاهْتَدَوْا بِإِذْنِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فاستدل الْأَصْحَابِ بِهِ مَعْلُومٌ، وَالْمُعْتَزِلَةُ أَجَابُوا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ بِالْهِدَايَةِ الْبَيَانُ، فَاللَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْمُكَلَّفِينَ بِذَلِكَ وَالثَّانِي: الْمُرَادُ بِالْهِدَايَةِ الطَّرِيقُ إِلَى الْجَنَّةِ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ بِهِ اللُّطْفُ فَيَكُونُ خَاصًّا لِمَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَصْلُحُ لَهُ وَهُوَ قول أبي بكر الرازي.
[[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٤]]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤)
فِي النَّظْمِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ السَّالِفَةِ: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ:
وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى الْحَقِّ وَطَلَبِ الْجَنَّةِ فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ الطَّلَبَ لَا يَتِمُّ وَلَا يَكْمُلُ إِلَّا بِاحْتِمَالِ الشَّدَائِدِ فِي التَّكْلِيفِ فَقَالَ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ الْآيَةِ الثَّانِي: أَنَّهُ فِي الْآيَةِ السَّالِفَةِ ما بَيَّنَ أَنَّهُ هَدَاهُمْ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ بعد تلك