وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا اللَّغْوَ أُورِدَ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ أَيْ قُصَارَى أَمْرِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَحْيَاءً عُقَلَاءَ، فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَهُمْ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ وَلَا فَضْلَ لَهُمْ عَلَيْكُمْ، فَلِمَ جَعَلْتُمْ أَنْفُسَكُمْ عَبِيدًا وَجَعَلْتُمُوهَا آلِهَةً وَأَرْبَابًا؟ ثُمَّ أَبْطَلَ أَنْ يَكُونُوا عِبَادًا أَمْثَالَكُمْ. فَقَالَ: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها [الأعراف: ١٩٥] ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْبَيَانَ بِقَوْلِهِ:
فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ وَمَعْنَى هَذَا الدُّعَاءِ طَلَبُ الْمَنَافِعِ وَكَشْفُ الْمَضَارِّ مِنْ جِهَتِهِمْ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ:
فَلْيَسْتَجِيبُوا لَامُ الْأَمْرِ عَلَى مَعْنَى التَّعْجِيزِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى الْإِجَابَةِ ظَهَرَ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلْمَعْبُودِيَّةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَبِيهِ: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
[مَرْيَمَ: ٤٢] وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ فِي ادِّعَاءِ أَنَّهَا آلِهَةٌ وَمُسْتَحِقَّةٌ للعبادة، ولما ثبت بهذه الدلائل الثلاثة اليقينة أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلْمَعْبُودِيَّةِ، وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَيْهَا، وَأَنْ لَا يَشْتَغِلَ إِلَّا بِعِبَادَةِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْعَالِمِ الْحَيِّ الْحَكِيمِ الضار النافع.
[[سورة الأعراف (٧) : آية ١٩٥]]
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الدَّلِيلِ فِي بَيَانِ أَنَّهُ يَقْبُحُ مِنَ الْإِنْسَانِ الْعَاقِلِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِعِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعْضَاءً أَرْبَعَةً، وَهِيَ الْأَرْجُلُ وَالْأَيْدِي وَالْأَعْيُنُ وَالْآذَانُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ إِذَا حَصَلَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْقُوَى الْمُحَرِّكَةِ وَالْمُدْرِكَةِ تَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهَا إِذَا كَانَتْ خَالِيَةً عَنْ هَذِهِ الْقُوَى، فَالرِّجْلُ الْقَادِرَةُ عَلَى الْمَشْيِ وَالْيَدُ الْقَادِرَةُ عَلَى الْبَطْشِ أَفْضَلُ مِنَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ الْخَالِيَتَيْنِ عَنْ قُوَّةِ الْحَرَكَةِ وَالْحَيَاةِ، وَالْعَيْنُ الْبَاصِرَةُ وَالْأُذُنُ السَّامِعَةُ أَفْضَلُ مِنَ الْعَيْنِ وَالْأُذُنِ الْخَالِيَتَيْنِ عَنِ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ وَالسَّامِعَةِ، وَعَنْ قُوَّةِ الْحَيَاةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ أَفْضَلُ بِكَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَامِ، بَلْ لَا نِسْبَةَ لِفَضِيلَةِ الْإِنْسَانِ إِلَى/ فَضْلِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الْبَتَّةَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْأَفْضَلِ الْأَكْمَلِ الْأَشْرَفِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِعِبَادَةِ الْأَخَسِّ الْأَدْوَنِ الَّذِي لَا يُحِسُّ مِنْهُ فَائِدَةً الْبَتَّةَ، لَا فِي جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ وَلَا فِي دَفْعِ الْمَضَرَّةِ. هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بَعْضُ أَغْمَارِ الْمُشَبِّهَةِ وَجْهًا لَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ للَّه تَعَالَى. فَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ عَدَمَ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ لِهَذِهِ الْأَصْنَامِ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ إِلَهِيَّتِهَا، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ مَوْجُودَةً للَّه تَعَالَى لَكَانَ عَدَمُهَا دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْإِلَهِيَّةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِإِثْبَاتِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ للَّه تَعَالَى. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: بَيَانُ أَنَّ الْإِنْسَانَ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ حَالًا مِنَ الصَّنَمِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ رِجْلٌ مَاشِيَةٌ، وَيَدٌ بَاطِشَةٌ، وَعَيْنٌ بَاصِرَةٌ، وَأُذُنٌ سَامِعَةٌ، وَالصَّنَمُ رِجْلُهُ غَيْرُ مَاشِيَةٍ، وَيَدُهُ غَيْرُ بَاطِشَةٍ، وَعَيْنُهُ غَيْرُ مُبْصِرَةٍ، وَأُذُنُهُ غَيْرُ سَامِعَةٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْإِنْسَانُ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ حَالًا مِنَ الصَّنَمِ، وَاشْتِغَالُ الْأَفْضَلِ الْأَكْمَلِ بِعِبَادَةِ الْأَخَسِّ الْأَدْوَنِ جَهْلٌ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ، لَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ وَهْمُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ: تَقْرِيرُ الْحُجَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ [الأعراف: ١٩٢] يَعْنِي كَيْفَ تَحْسُنُ عِبَادَةُ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى النَّفْعِ وَالضَّرَرِ، ثُمَّ قَرَّرَ تَعَالَى ذَلِكَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ لَمْ يَحْصُلْ لَهَا أَرْجُلٌ مَاشِيَةٌ، وَأَيْدٍ بَاطِشَةٌ، وَأَعْيُنٌ