للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ شَبَّهَ اللَّهُ حَالَ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِحَالِ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَطُّ فِي تِلْكَ الدِّيَارِ. قَالَ الشَّاعِرُ:

كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إِلَى الصَّفَا ... أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرٌ

بَلَى نَحْنُ كُنَّا أَهْلَهَا فَأَبَادَنَا ... صُرُوفُ اللَّيَالِي وَالْجُدُودُ الْعَوَاثِرُ

الْبَحْثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ كَانَ مُخْتَصًّا بِأُولَئِكَ الْمُكَذِّبِينَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ إِنَّمَا حَدَثَ بِتَخْلِيقِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ أَثَرُ الْكَوَاكِبِ وَالطَّبِيعَةِ، وَإِلَّا لَحَصَلَ فِي أَتْبَاعِ شُعَيْبٍ، كَمَا حَصَلَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ. وَالثَّانِي: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ، عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ، حَتَّى يُمْكِنَهُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي. وَثَالِثُهَا: يَدُلُّ عَلَى الْمُعْجِزِ الْعَظِيمِ فِي حَقِّ شُعَيْبٍ، لِأَنَّ الْعَذَابَ النَّازِلَ مِنَ السَّمَاءِ لَمَّا وَقَعَ عَلَى قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ مَعَ كَوْنِهِمْ مُجْتَمِعِينَ فِي بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُعْجِزَاتِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ وَإِنَّمَا كَرَّرَ قَوْلَهُ: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً لِتَعْظِيمِ الْمَذَلَّةِ لَهُمْ وَتَفْظِيعِ مَا يَسْتَحِقُّونَ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى جَهْلِهِمْ، وَالْعَرَبُ تُكَرِّرُ مِثْلَ هَذَا فِي التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: أَخُوكَ الَّذِي ظَلَمَنَا، أَخُوكَ الَّذِي أَخَذَ أَمْوَالَنَا، أَخُوكَ الَّذِي هَتَكَ أَعْرَاضَنَا، وَأَيْضًا أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا قَالُوا: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَتَّبِعُوهُ وَخَالَفُوهُ هُمُ الْخَاسِرُونَ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ تَوَلَّى بَعْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَلَمْ يُعَذَّبْ قَوْمُ نَبِيٍّ حَتَّى أُخْرِجَ مِنْ بَيْنِهِمْ.

ثُمَّ قَالَ: فَكَيْفَ آسَى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ الْأَسَى شِدَّةُ الْحُزْنِ. قَالَ الْعَجَّاجُ:

وَانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ فَرْطِ الْأَسَى

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اشْتَدَّ حُزْنُهُ عَلَى قَوْمِهِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا كَثِيرِينَ، وَكَانَ يَتَوَقَّعُ مِنْهُمُ الِاسْتِجَابَةَ لِلْإِيمَانِ، فَلَمَّا أَنْ نَزَلَ بِهِمْ ذَلِكَ الْهَلَاكُ الْعَظِيمُ، حَصَلَ فِي قَلْبِهِ مِنْ جِهَةِ الْوَصْلَةِ وَالْقَرَابَةِ وَالْمُجَاوَرَةِ وَطُولِ الْأُلْفَةِ. ثُمَّ عَزَّى نَفْسَهُ وَقَالَ: فَكَيْفَ آسَى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ أَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ بِسَبَبِ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ لَقَدْ أَعْذَرْتُ إِلَيْكُمْ فِي الْإِبْلَاغِ وَالنَّصِيحَةِ وَالتَّحْذِيرِ مِمَّا حَلَّ بِكُمْ، فَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلِي، وَلَمْ تَقْبَلُوا نَصِيحَتِي فَكَيْفَ آسَى عَلَيْكُمْ يَعْنِي أَنَّهُمْ لَيْسُوا مُسْتَحِقِّينَ بِأَنْ يَأْسَى الْإِنْسَانُ عَلَيْهِمْ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ فَكَيْفَ إِيسَى بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ.

[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٩٤ الى ٩٥]

وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٩٥)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَرَّفَنَا أَحْوَالَ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَحْوَالَ مَا جَرَى عَلَى أُمَمِهِمْ، كَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يُظَنَّ انه

<<  <  ج: ص:  >  >>