للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَالتَّقْدِيرُ: يَخْشَوْنَهُمْ كَخَشْيَةِ اللَّه وَأَشَدَّ خَشْيَةً، وَلَيْسَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ مُنَافَاةٌ، لِأَنَّ مَنْ هُوَ أَشَدُّ خَشْيَةً فَمَعَهُ مِنَ الْخَشْيَةِ مِثْلُ خَشْيَتِهِ مِنَ اللَّه وَزِيَادَةٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصَّافَّاتِ: ١٤٧] يَعْنِي أَنَّ مَنْ يُبْصِرُهُمْ يقول هذا الكلام، فكذا هاهنا واللَّه أَعْلَمُ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَهُمْ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لَا اعْتِرَاضًا عَلَى اللَّه، لَكِنْ جَزَعًا مِنَ الْمَوْتِ وَحُبًّا لِلْحَيَاةِ، وَإِنْ كَانُوا مُنَافِقِينَ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِكَوْنِ الرَّبِّ تَعَالَى كَاتِبًا لِلْقِتَالِ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى كَتَبَ الْقِتَالَ عَلَيْهِمْ فِي زَعْمِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَفِي دَعْوَاهُ، ثُمَّ قَالُوا: لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ وَهَذَا كالعلة لكراهتهم لا يجاب الْقِتَالِ عَلَيْهِمْ، أَيْ هَلَّا تَرَكْتَنَا حَتَّى نَمُوتَ بِآجَالِنَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ شُبْهَتِهِمْ فَقَالَ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا قَلِيلَةٌ، وَنِعَمَ الْآخِرَةِ كَثِيرَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ وَنِعَمَ الْآخِرَةِ مُؤَبَّدَةٌ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا مَشُوبَةٌ بِالْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْمَكَارِهِ، وَنِعَمَ الْآخِرَةِ صَافِيَةٌ عَنِ الْكُدُرَاتِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا مَشْكُوكَةٌ فَإِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ تَنَعُّمًا لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ عَاقِبَتُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَنِعَمَ الآخرة يقينية، وكل هذه الوجوه تجب رُجْحَانَ الْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْخَيْرِيَّةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَ تَعَالَى هَذَا الشَّرْطَ وَهُوَ قَوْلُهُ: لِمَنِ اتَّقى وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ

قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (يُظْلَمُونَ) بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى سَبِيلِ الْخِطَابِ، وَيُؤَيِّدُ التَّاءَ قَوْلُهُ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ: قُلْ يُفِيدُ الْخِطَابَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ عَلَى طَاعَتِهِمُ الثَّوَابَ، وَإِلَّا لَمَا تَحَقَّقَ نَفْيُ الظُّلْمِ، وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَصِحُّ مِنْهُ الظُّلْمُ وَإِنْ كُنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ، وَإِلَّا لما يصح التمدح به.

المسألة الثالثة: قوله: وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْ لَا يُنْقَصُونَ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ مِثْلَ فَتِيلِ النَّوَاةِ وَهُوَ مَا تَفْتِلُهُ بِيَدِكَ ثُمَّ تُلْقِيهِ احْتِقَارًا. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ.

[[سورة النساء (٤) : آية ٧٨]]

أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ] وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَبْكِيتُ مَنْ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَ فَرْضِ الْقِتَالِ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّه أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ، فَقَالَ تَعَالَى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا خَلَاصَ لَهُمْ مِنَ الْمَوْتِ، وَالْجِهَادُ مَوْتٌ مُسْتَعْقِبٌ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْمَوْتِ، فَبِأَنْ يَقَعَ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مُسْتَعْقِبًا لِلسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ كَانَ أَوْلَى مِنْ أَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الْأَحْزَابِ: ١٦] وَالْبُرُوجُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هِيَ الْقُصُورُ

<<  <  ج: ص:  >  >>