فِي نَوْعَيْنِ: الْأَعْمَالُ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الْعَبْدُ، والآثار المتفرعة على تلك الأعمال: أما الْأَعْمَالِ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الْعَبْدُ فَلَهَا رُكْنَانِ: أَحَدُهُمَا: إِتْيَانُهُ بِالْعِبَادَةِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ. وَالثَّانِي: عِلْمُهُ بِأَنْ لَا يُمْكِنَهُ الْإِتْيَانُ بِهَا إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وهاهنا يَنْفَتِحُ الْبَحْرُ الْوَاسِعُ فِي الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، وَأَمَّا الْآثَارُ الْمُتَفَرِّعَةُ عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ فَهِيَ حُصُولُ الْهِدَايَةِ وَالِانْكِشَافِ وَالتَّجَلِّي، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الْعَالَمِ ثَلَاثُ طَوَائِفَ: الطَّائِفَةُ الْأُولَى: الْكَامِلُونَ الْمُحِقُّونَ الْمُخْلِصُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ لِذَاتِهِ، وَمَعْرِفَةِ الْخَيْرِ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، وَإِلَيْهِمُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: الَّذِينَ أَخَلُّوا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهُمُ الْفَسَقَةُ وَإِلَيْهِمُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ. وَالطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِينَ أَخَلُّوا بِالِاعْتِقَادَاتِ الصَّحِيحَةِ، وَهُمْ أَهْلُ البِّدَعِ وَالْكُفْرِ، وَإِلَيْهِمُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَلَا الضَّالِّينَ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: اسْتِكْمَالُ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِالْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُحَاوِلَ تَحْصِيلَهَا بِالْفِكْرِ وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَالثَّانِي: أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ مَحْصُولَاتُ الْمُتَقَدِّمِينَ فَتَسْتَكْمِلَ نَفْسُهُ، وَقَوْلُهُ:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَقَوْلُهُ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْقِسْمِ الثَّانِي، ثُمَّ فِي هَذَا الْقِسْمِ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ اقْتِدَاؤُهُ بِأَنْوَارِ عُقُولِ الطَّائِفَةِ الْمُحِقَّةِ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّائِبَةِ، وَتَبَرَّأَ مِنْ أَنْ يَكُونَ اقْتِدَاؤُهُ بِطَائِفَةِ الَّذِينَ أَخَلُّوا بِالْأَعْمَالِ الصَّحِيحَةِ، وَهُمُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ، أَوْ بِطَائِفَةِ الَّذِينَ أَخَلُّوا بِالْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ، وَهُمُ الضَّالُّونَ، وَهَذَا آخِرُ السُّورَةِ، وَعِنْدَ الْوُقُوفِ عَلَى مَا لَخَّصْنَاهُ يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ الْمَقَامَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي مَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ ومعرفة العبودية.
[الفصل الرابع قسمة الله للصلاة بينه وبين عباده:]
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَقُولُ اللَّهُ حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَقُولُ اللَّهُ عَظَّمَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يَقُولُ اللَّهُ مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ يَقُولُ اللَّهُ عَبَدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى تَوَكَّلَ عَلَيَّ عَبْدِي، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فَإِذَا قَالَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ يَقُولُ اللَّهُ هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ.
فَوَائِدُ هَذَا الْحَدِيثِ:
الْفَائِدَةُ الْأُولَى:
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَدَارَ الشَّرَائِعِ عَلَى رِعَايَةِ مَصَالِحِ الْخَلْقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: ٧] وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهَمَّ الْمُهِمَّاتِ لِلْعَبْدِ أَنْ يَسْتَنِيرَ قَلْبُهُ بِمَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، ثُمَّ بِمَعْرِفَةِ الْعُبُودِيَّةِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا خُلِقَ لِرِعَايَةِ هَذَا الْعَهْدِ، كَمَا قَالَ:
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: ٥٦] وَقَالَ: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الْإِنْسَانِ: ٢] وقال: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute