للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اللَّهِ تَعَالَى، وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: فَلِلَّهِ جَزَاءُ الْمَكْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا مَكَرُوا بِالْمُؤْمِنِينَ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُجَازِيهِمْ على مكرهم. قال الواحدي: والأول أظهر لقولين بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ يُرِيدُ أَنَّ أَكْسَابَ الْعِبَادِ بِأَسْرِهَا مَعْلُومَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَخِلَافُ الْمَعْلُومِ مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ مَا عَلِمَ اللَّهُ وُقُوعَهُ فَهُوَ وَاجِبُ الْوُقُوعِ، وَكُلُّ مَا عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَهُ كَانَ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا قُدْرَةَ لِلْعَبْدِ عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَكَانَ الْكُلُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ الْأُولَى إِنْ دَلَّتْ عَلَى قَوْلِكُمْ فَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ:

يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ دَلَّتْ عَلَى قَوْلِنَا، لِأَنَّ الْكَسْبَ هُوَ الْفِعْلُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى دَفْعِ مَضَرَّةٍ أَوْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ، وَلَوْ كَانَ حُدُوثُ الْفِعْلِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ فِيهِ أَثَرٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْعَبْدِ كَسْبٌ.

وَجَوَابُهُ: أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ مَجْمُوعَ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِي مُسْتَلْزِمٌ لِلْفِعْلِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْكَسْبُ حَاصِلٌ لِلْعَبْدِ.

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ ذَلِكَ التَّهْدِيدَ فَقَالَ: وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: وَسَيَعْلَمُ الْكَافِرُ عَلَى لَفْظِ الْمُفْرَدِ وَالْبَاقُونَ عَلَى الْجَمْعِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ: (الْكُفَّارُ، وَالْكَافِرُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا، وَالْكُفْرُ) أَيْ أَهْلُهُ قَرَأَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ: (وَسَيُعْلَمُ الْكَافِرُ) مِنْ أَعْلَمَهُ أَيْ سَيُخْبَرُ.

المسألة الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِالْكَافِرِ الْجِنْسُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [الْعَصْرِ: ٢] وَالْمَعْنَى:

أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا جُهَّالًا بِالْعَوَاقِبِ فَسَيَعْلَمُونَ لِمَنِ الْعَاقِبَةُ الْحَمِيدَةُ، وَذَلِكَ كَالزَّجْرِ وَالتَّهْدِيدِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ يُرِيدُ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَهُمْ خَمْسَةٌ، وَالْمُقْتَسِمِينَ وَهُمْ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ يُرِيدُ أَبَا الْجَهْلِ. وَالْقَوْلُ الأول هو الصواب.

[[سورة الرعد (١٣) : آية ٤٣]]

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْقَوْمِ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا كَوْنَهُ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِأَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: شَهَادَةُ اللَّهِ عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْ تِلْكَ الشَّهَادَةِ أَنَّهُ تَعَالَى أَظْهَرَ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى كَوْنِهِ صَادِقًا فِي ادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ، وَهَذَا أَعْلَى مَرَاتِبِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ قَوْلٌ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِأَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ. أَمَّا الْمُعْجِزُ فَإِنَّهُ فِعْلٌ مَخْصُوصٌ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِكَوْنِهِ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ إِظْهَارُ الْمُعْجِزَةِ أَعْظَمَ مَرَاتِبِ الشَّهَادَةِ.

وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ وَفِيهِ قِرَاءَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ: وَمَنْ عِنْدَهُ يَعْنِي وَالَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ. وَالثَّانِيَةُ: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ وَكَلِمَةُ «مِنْ» هَاهُنَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيْ وَمِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَصَلَ عِلْمُ الْكِتَابِ. أَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى فَفِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ شَهَادَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَتَمِيمٌ الدَّارِيُّ. وَيُرْوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّهُ كَانَ يُبْطِلُ هَذَا الوجه وَيَقُولُ: السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ ابْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ، لِأَنَّهُمْ آمَنُوا فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِأَنْ قِيلَ:

هَذِهِ السُّورَةُ وَإِنْ كَانَتْ مَكِّيَّةً إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ/ مَدَنِيَّةٌ، وَأَيْضًا فَإِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ مَعَ كَوْنِهِمَا غَيْرَ مَعْصُومَيْنِ عَنِ الْكَذِبِ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا السُّؤَالُ وَاقِعٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>