للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُقَرِّرُ السَّبْتَ وَيَسْتَقْبِلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ إِنَّهُ فَسَّرَ قَوْلَهُ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَحْبَارَ كَانُوا قَدْ وَضَعُوا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ شَرَائِعَ بَاطِلَةً وَنَسَبُوهَا إِلَى مُوسَى، فَجَاءَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَفَعَهَا وَأَبْطَلَهَا وَأَعَادَ الْأَمْرَ إِلَى مَا كَانَ فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ حَرَّمَ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْيَهُودِ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى بَعْضِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْجِنَايَاتِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النِّسَاءِ: ١٦٠] ثُمَّ بَقِيَ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ مُسْتَمِرًّا عَلَى الْيَهُودِ فَجَاءَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَفَعَ تِلْكَ التَّشْدِيدَاتِ عَنْهُمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَفَعَ كَثِيرًا مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَادِحًا فِي كَوْنِهِ مُصَدِّقًا بِالتَّوْرَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَرَفَعَ السَّبْتَ وَوَضَعَ الْأَحَدَ قَائِمًا مَقَامَهُ وَكَانَ مُحِقًّا فِي كُلِّ مَا عَمِلَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ كِلَاهُمَا حَقٌّ وَصِدْقٌ.

ثُمَّ قَالَ: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنَّمَا أَعَادَهُ لِأَنَّ إِخْرَاجَ الْإِنْسَانِ عَنِ الْمَأْلُوفِ الْمُعْتَادِ مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ عَسِرٌ فَأَعَادَ ذِكْرَ الْمُعْجِزَاتِ لِيَصِيرَ كَلَامُهُ نَاجِعًا فِي قُلُوبِهِمْ وَمُؤَثِّرًا فِي طِبَاعِهِمْ، ثُمَّ خَوَّفَهُمْ فَقَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ لِأَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ مِنْ لَوَازِمِ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى فَبَيَّنَ أَنَّهُ إِذَا لَزِمَكُمْ أَنْ تَتَّقُوا اللَّهَ لَزِمَكُمْ أَنْ تُطِيعُونِي فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ عَنْ رَبِّي، ثُمَّ إِنَّهُ خَتَمَ كَلَامَهُ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ/ وَمَقْصُودُهُ إِظْهَارُ الْخُضُوعِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْعُبُودِيَّةِ لِكَيْلَا يتقولوا عليه الباطل فيقولون: إنه إليه وَابْنُ إِلَهٍ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ لِلَّهِ بِالْعُبُودِيَّةِ يَمْنَعُ مَا تَدَّعِيهِ جُهَّالُ النَّصَارَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: فَاعْبُدُوهُ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ رَبَّ الْخَلَائِقِ بِأَسْرِهِمْ وَجَبَ عَلَى الْكُلِّ أَنْ يَعْبُدُوهُ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٢ الى ٥٤]

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى بِشَارَةَ مَرْيَمَ بِوَلَدٍ مِثْلِ عِيسَى وَاسْتَقْصَى فِي بَيَانِ صِفَاتِهِ وَشَرْحِ مُعْجِزَاتِهِ وَتَرَكَ هَاهُنَا قِصَّةَ وِلَادَتِهِ، وَقَدْ ذَكَرَهَا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ، شَرَعَ فِي بَيَانِ أَنَّ عِيسَى لَمَّا شَرَحَ لَهُمْ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ، وَأَظْهَرَ لَهُمْ تِلْكَ الدَّلَائِلَ فَهُمْ بِمَاذَا عَامَلُوهُ فَقَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْإِحْسَاسُ عِبَارَةٌ عَنْ وِجْدَانِ الشَّيْءِ بِالْحَاسَّةِ وَهَاهُنَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُجْرَى اللَّفْظُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا بِالْكُفْرِ، فَأَحَسَّ ذَلِكَ بِأُذُنِهِ وَالثَّانِي: أَنْ نَحْمِلَهُ عَلَى التَّأْوِيلِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ عَرَفَ مِنْهُمْ إِصْرَارَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَعَزْمَهُمْ عَلَى قَتْلِهِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ عِلْمًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ، مِثْلَ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ مِنَ الْحَوَاسِّ، لَا جَرَمَ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ الإحساس.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي بِهِ ظَهَرَ كُفْرُهُمْ عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ جَاءَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى دِينِ اللَّهِ فَتَمَرَّدُوا وَعَصَوْا فَخَافَهُمْ وَاخْتَفَى عَنْهُمْ، وَكَانَ أَمْرُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْمِهِ كَأَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ فَكَانَ مُسْتَضْعَفًا، وَكَانَ يَخْتَفِي مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا اخْتَفَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي