السَّاجِدِينَ
قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَحْتَمِلُ سَائِرَ الْوُجُوهِ قَوْلُهُ تُحْمَلُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الْكُلِّ، قُلْنَا هَذَا مُحَالٌ لِأَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ لَا يَجُوزُ، وَأَيْضًا حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مَعًا لَا يَجُوزُ، وَأَمَّا
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَمْ أَزَلْ أُنْقَلُ مِنْ أَصْلَابِ الطَّاهِرِينَ إِلَى أَرْحَامِ الطَّاهِرَاتِ»
فَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مَا وَقَعَ فِي نَسَبِهِ مَا كَانَ سِفَاحًا، أَمَّا قَوْلُهُ التَّغْلِيظُ مَعَ الْأَبِ لَا يَلِيقُ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قُلْنَا: لَعَلَّهُ أَصَرَّ عَلَى كُفْرِهِ فَلِأَجَلِ الْإِصْرَارِ استحق ذلك التغليظ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قُرِئَ آزَرَ بِالنَّصْبِ وَهُوَ عَطْفُ بَيَانٍ لِقَوْلِهِ: لِأَبِيهِ وَبِالضَّمِّ عَلَى النِّدَاءِ، وَسَأَلَنِي وَاحِدٌ فَقَالَ: قُرِئَ آزَرَ بِهَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ قُرِئَ هارُونَ بِالنَّصْبِ وَمَا قُرِئَ الْبَتَّةَ بِالضَّمِّ فَمَا الْفَرْقُ؟ قُلْتُ الْقِرَاءَةُ بِالضَّمِّ مَحْمُولَةٌ عَلَى النِّدَاءِ وَالنِّدَاءُ بِالِاسْمِ اسْتِخْفَافٌ بِالْمُنَادَى. وَذَلِكَ لَائِقٌ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ كَانَ مُصِرًّا عَلَى كُفْرِهِ فَحَسُنَ أَنْ يُخَاطَبَ بِالْغِلْظَةِ زَجْرًا لَهُ عَنْ ذَلِكَ الْقَبِيحِ، وَأَمَّا قِصَّةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَسْتَخْلِفُ هَارُونَ عَلَى قَوْمِهِ فَمَا كَانَ الِاسْتِخْفَافُ لَائِقًا بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَلَا جَرَمَ مَا كَانَتِ الْقِرَاءَةُ بِالضَّمِّ جَائِزَةً.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِ لَفْظِ «الْإِلَهِ» وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ هُوَ الْمَعْبُودُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّهُمْ مَا أَثْبَتُوا لِلْأَصْنَامِ إِلَّا كَوْنَهَا مَعْبُودَةً، وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَفْسِيرَ لَفْظِ «الْإِلَهِ» هُوَ الْمَعْبُودُ.
/ الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اشْتَمَلَ كَلَامُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ذِكْرِ الْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِكَثْرَةِ الْآلِهَةِ، إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ بِكَثْرَةِ الْآلِهَةِ بَاطِلٌ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ لَوْ حَصَلَتْ لَهَا قُدْرَةٌ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لَكَانَ الصَّنَمُ الْوَاحِدُ كَافِيًا، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْوَاحِدُ كَافِيًا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا وَإِنْ كَثُرَتْ فَلَا نَفْعَ فِيهَا الْبَتَّةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَوُجُوبَ الِاشْتِغَالِ بِشُكْرِهِ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ لَا بِالسَّمْعِ. قَالَ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالِ، وَلَوْلَا الْوُجُوبُ الْعَقْلِيُّ لَمَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالِ. لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَذْهَبَ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ كَانَ ضَلَالًا بِحُكْمِ شَرْعِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا مُتَقَدِّمِينَ على إبراهيم عليه السلام.
[[سورة الأنعام (٦) : آية ٧٥]]
وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «الْكَافُ» فِي كَذَلِكَ لِلتَّشْبِيهِ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى غَائِبٍ جرى ذكره والمذكور هاهنا فِيمَا قَبْلُ هُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَقْبَحَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَالْمَعْنَى: وَمِثْلُ مَا أَرَيْنَاهُ من قبح عبادة الأصنام نريه ملكوت السموات والأرض. وهاهنا دَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ، وَهِيَ أَنَّ نُورَ جَلَالِ اللَّه تَعَالَى لَائِحٌ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ وَلَا زَائِلٍ الْبَتَّةَ، وَالْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ لَا تَصِيرُ مَحْرُومَةً عَنْ تِلْكَ الْأَنْوَارِ إِلَّا لِأَجْلِ حِجَابٍ، وَذَلِكَ الْحِجَابُ لَيْسَ إِلَّا الِاشْتِغَالُ بِغَيْرِ اللَّه تَعَالَى، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَبِقَدْرِ مَا يَزُولُ ذَلِكَ الْحِجَابُ يحصل هذا