وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ طَوَافُهُ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عَلَى السَّاجِدِينَ. وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُصَلِّي بِالْجَمَاعَةِ فَتَقَلُّبُهُ فِي السَّاجِدِينَ مَعْنَاهُ: كَوْنُهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَمُخْتَلِطًا بِهِمْ حَالَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مَا يَخْفَى حَالُكَ عَلَى اللَّه كُلَّمَا قُمْتَ وَتَقَلَّبْتَ مَعَ السَّاجِدِينَ فِي الِاشْتِغَالِ بِأُمُورِ الدِّينِ.
وَرَابِعُهَا: الْمُرَادُ تَقَلُّبُ بَصَرِهِ فِيمَنْ يُصَلِّي خَلْفَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَتِمُّوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي»
فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ مِمَّا يَحْتَمِلُهَا ظَاهِرُ الْآيَةِ، فَسَقَطَ مَا ذَكَرْتُمْ.
وَالْجَوَابُ: لَفْظُ الْآيَةِ مُحْتَمِلٌ لِلْكُلِّ، فَلَيْسَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْبَاقِي. فَوَجَبَ أَنْ نَحْمِلَهَا عَلَى الْكُلِّ وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، وَمِمَّا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنْ آبَاءِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَمْ أَزَلْ أُنْقَلُ مِنْ أَصْلَابِ الطَّاهِرِينَ إِلَى أَرْحَامِ الطَّاهِرَاتِ»
وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التَّوْبَةِ: ٢٨] وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَحَدًا مِنْ أَجْدَادِهِ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ مُشْرِكًا، وَثَبَتَ أَنَّ آزَرَ كَانَ مُشْرِكًا.
فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ إِنْسَانًا آخَرَ غَيْرَ آزَرَ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: عَلَى أَنَّ آزَرَ مَا كَانَ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَافَهَ آزَرَ بِالْغِلْظَةِ وَالْجَفَاءِ. وَمُشَافَهَةُ الْأَبِ بِالْجَفَاءِ لَا تَجُوزُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آزَرَ مَا كَانَ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ شَافَهَ آزَرَ بِالْغِلْظَةِ وَالْجَفَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قُرِئَ وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ بِضَمِّ آزَرَ وَهَذَا يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى النِّدَاءِ وَنِدَاءُ الْأَبِ بِالِاسْمِ الْأَصْلِيِّ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْجَفَاءِ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ لَآزَرَ: إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْجَفَاءِ وَالْإِيذَاءِ. فَثَبَتَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَافَهَ آزَرَ بِالْجَفَاءِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ مُشَافَهَةَ الْأَبِ بِالْجَفَاءِ لَا تَجُوزُ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الْإِسْرَاءِ: ٢٣] وَهَذَا عَامٌّ فِي حَقِّ الْأَبِ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ، قَالَ تَعَالَى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما [الإسراء: ٢٣] وهذا أيضا عام. والثاني: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَعَثَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى فِرْعَوْنَ أَمَرَهُ بِالرِّفْقِ مَعَهُ فَقَالَ فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: ٤٤] وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ رِعَايَةً لِحَقِّ تَرْبِيَةِ فِرْعَوْنَ. فَهَهُنَا الْوَالِدُ أَوْلَى بِالرِّفْقِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الدَّعْوَةَ مَعَ الرِّفْقِ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا فِي الْقَلْبِ، أَمَّا التَّغْلِيظُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ/ التَّنْفِيرَ وَالْبُعْدَ عَنِ الْقَبُولِ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْلِ: ١٢٥] فَكَيْفَ يَلِيقُ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِثْلُ هَذِهِ الْخُشُونَةِ مَعَ أَبِيهِ فِي الدَّعْوَةِ؟ الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْحِلْمَ، فَقَالَ: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ [هُودٍ: ٧٥] وَكَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّجُلِ الْحَلِيمِ مِثْلُ هَذَا الْجَفَاءِ مَعَ الْأَبِ؟ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ آزَرَ مَا كَانَ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلْ كَانَ عَمًّا لَهُ، فَأَمَّا وَالِدُهُ فَهُوَ تَارَحُ وَالْعَمُّ قَدْ يُسَمَّى بِالْأَبِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَوْلَادَ يَعْقُوبَ سَمَّوْا إِسْمَاعِيلَ بِكَوْنِهِ أَبًا لِيَعْقُوبَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَمًّا لَهُ.
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رُدُّوا عَلَيَّ أَبِي»
يَعْنِي الْعَمَّ الْعَبَّاسَ وَأَيْضًا يُحْتَمَلُ أَنَّ آزَرَ كَانَ وَالِدَ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَذَا قَدْ يُقَالُ لَهُ الْأَبُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ إِلَى قَوْلِهِ:
وَعِيسى [الْأَنْعَامِ: ٨٤، ٨٥] فَجَعَلَ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ جَدًّا لِعِيسَى مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ. وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ وَالِدَ رَسُولِ اللَّه كَانَ كَافِرًا وَذَكَرُوا أَنَّ نَصَّ الْكِتَابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ آزَرَ كَانَ كَافِرًا وَكَانَ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَى قَوْلِهِ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التَّوْبَةِ: ١١٤] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قولنا، وأما قوله وَتَقَلُّبَكَ فِي