للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَرَادَ أَصِيدُ لَكُمْ وَالْهَاءُ فِي تَبْغُونَها عَائِدَةٌ إلى السبيل لأن السبيل يؤنث ويذكر والعوج يَعْنِي بِهِ الزَّيْغَ وَالتَّحْرِيفَ، أَيْ تَلْتَمِسُونَ لِسَبِيلِهِ الزَّيْغَ وَالتَّحْرِيفَ بِالشُّبَهِ الَّتِي تُورِدُونَهَا عَلَى الضَّعَفَةِ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: النَّسْخُ يَدُلُّ عَلَى الْبَدَاءِ وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُ وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَاقِيَةٌ إِلَى الْأَبَدِ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عِوَجاً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالْمَعْنَى: تَبْغُونَهَا ضَالِّينَ/ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَأَنَّهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَسَبِيلِهِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّكُمْ تَبْغُونَ سَبِيلَ اللَّهِ ضَالِّينَ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يُحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ اللَّامِ فِي تَبْغُونَهَا.

ثُمَّ قَالَ: وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَعْنِي أَنْتُمْ شُهَدَاءُ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ دِينَ اللَّهِ الَّذِي لَا يُقْبَلُ غَيْرُهُ هُوَ الْإِسْلَامُ الثَّانِي: وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ عَلَى ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّالِثُ: وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الرَّابِعُ: وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ بَيْنَ أَهْلِ دِينِكُمْ عُدُولٌ يَثِقُونَ بِأَقْوَالِكُمْ وَيُعَوِّلُونَ عَلَى شَهَادَتِكُمْ فِي عِظَامِ الْأُمُورِ وَهُمُ الْأَحْبَارُ وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ الْإِصْرَارُ عَلَى الْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ وَالضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ.

ثُمَّ قَالَ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَالْمُرَادُ التَّهْدِيدُ، وَهُوَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِعَبْدِهِ، وَقَدْ أَنْكَرَ طَرِيقَهُ لَا يَخْفَى عَلَيَّ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ وَلَسْتُ غَافِلًا عَنْ أَمْرِكَ وَإِنَّمَا خَتَمَ الْآيَةَ الْأُولَى بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ وَهَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْكُفْرَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا كَانُوا يُظْهِرُونَ إِلْقَاءَ الشُّبَهِ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ كَانُوا يَحْتَالُونَ فِي ذَلِكَ بِوُجُوهِ الْحِيَلِ فَلَا جَرَمَ قَالَ فِيمَا أَظْهَرُوهُ وَاللَّهُ شَهِيدٌ وَفِيمَا أَضْمَرُوهُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَإِنَّمَا كرر في الآيتين قوله قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ

لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّوْبِيخُ عَلَى أَلْطَفِ الْوُجُوهِ، وَتَكْرِيرُ هَذَا الْخِطَابِ اللَّطِيفِ أَقْرَبُ إِلَى التَّلَطُّفِ فِي صَرْفِهِمْ عَنْ طَرِيقَتِهِمْ فِي الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ وَأَدَلُّ عَلَى النُّصْحِ لَهُمْ فِي الدِّينِ وَالْإِشْفَاقِ.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٠ الى ١٠١]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)

[في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَذَّرَ الْفَرِيقَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَنِ الْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ حَذَّرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ إِغْوَائِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ وَمَنْعِهِمْ عَنْ الِالْتِفَاتِ إِلَى قَوْلِهِمْ،

رُوِيَ أَنْ شَاسَ بْنَ قَيْسٍ الْيَهُودِيَّ كَانَ عَظِيمَ الْكُفْرِ شَدِيدَ الطَّعْنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ شَدِيدَ الْحَسَدِ، فَاتُّفِقَ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فَرَآهُمْ فِي مَجْلِسٍ لَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ، وَكَانَ قَدْ زَالَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْعَدَاوَةِ بِبَرَكَةِ الْإِسْلَامِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْيَهُودِيِّ فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ وَذَكَّرَهُمْ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْحُرُوبِ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ بَعْضَ مَا قِيلَ فِي تِلْكَ الْحُرُوبِ مِنَ الْأَشْعَارِ فَتَنَازَعَ الْقَوْمُ وَتَغَاضَبُوا وَقَالُوا: السِّلَاحَ السِّلَاحَ، فَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَقَالَ: أَتَرْجِعُونَ إِلَى أَحْوَالِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، وَقَدْ أَكْرَمَكُمُ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَعَرَفَ الْقَوْمُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وَمِنْ كَيْدِ ذَلِكَ الْيَهُودِيِّ، فَأَلْقَوُا السِّلَاحَ وَعَانَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا كَانَ يَوْمٌ أَقْبَحَ أَوَّلًا وَأَحْسَنَ آخِرًا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ

فَقَوْلُهُ إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هَذِهِ