وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُبْطِلَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَالًّا فَقَطْ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ كَوْنِهِ ضَالًّا يَكُونُ مُضِلًّا، وَالْقَوْمُ كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا فَبَدَأَ تَعَالَى بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ فِي الصِّفَةِ الْأُولَى عَلَى سَبِيلِ الرِّفْقِ وَاللُّطْفِ.
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
المسألة الأولى: قوله يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَنِ الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ الْحَسَنُ: هُمْ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ عَلِمُوا صِحَّةَ نُبُوَّتِهِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْمُرَادُ كُلُّ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا فَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ عَلَيْهِمْ فَكَأَنَّهُمْ بِتَرْكِ الِاسْتِدْلَالِ وَالْعُدُولِ إِلَى التَّقْلِيدِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَلِمَ ثُمَّ أَنْكَرَ.
فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ خُصَّ أَهْلُ الْكِتَابِ بِالذِّكْرِ دُونَ سَائِرِ الْكُفَّارِ؟.
قُلْنَا لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ تَعَالَى أَوْرَدَ الدَّلِيلَ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ثُمَّ أَجَابَ عَنْ شُبَهِهِمْ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا تَمَّ ذلك خاطبهم فقال: يا أَهْلَ الْكِتابِ فَهَذَا التَّرْتِيبُ الصَّحِيحُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ أَقْوَى لِتَقَدُّمِ اعْتِرَافِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ وَأَصْلِ النُّبُوَّةِ، وَلِمَعْرِفَتِهِمْ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الشَّهَادَةِ بِصِدْقِ الرَّسُولِ وَالْبِشَارَةِ بِنُبُوَّتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ مِنْ قِبَلِهِمْ حَتَّى يَصِحَّ هَذَا التَّوْبِيخُ وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ تَوْبِيخُهُمْ عَلَى طَوْلِهِمْ وَصِحَّتِهِمْ وَمَرَضِهِمْ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ: الْمُعَارَضَةُ بِالْعِلْمِ وَالدَّاعِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الْآيَاتُ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْمُرَادُ بِكُفْرِهِمْ بِهَا كُفْرُهُمْ بِدَلَالَتِهَا عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ وَالْمَعْنَى: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ الَّتِي دَلَّتْكُمْ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْحَالُ أَنَّ اللَّهَ شَهِيدٌ عَلَى أَعْمَالِكُمْ وَمُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا وَهَذِهِ الْحَالُ توجب أن لا تجترؤا عَلَى الْكُفْرِ بِآيَاتِهِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ فِي ضَلَالِهِمْ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ فِي إِضْلَالِهِمْ لِضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ صَدَدْتُهُ أَصُدُّهُ صَدًّا وَأَصْدَدْتُهُ إِصْدَادًا، وَقَرَأَ الْحَسَنُ تُصِدُّونَ بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ أَصَدَّهُ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَكَانَ صَدُّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِإِلْقَاءِ الشُّبَهِ وَالشُّكُوكِ فِي قُلُوبِ الضَّعَفَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانُوا يُنْكِرُونَ كَوْنَ صِفَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: تَبْغُونَها عِوَجاً الْعِوَجُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمَيْلُ عَنْ الِاسْتِوَاءِ فِي كُلِّ مَا لَا يُرَى، وَهُوَ الدِّينُ وَالْقَوْلُ، فَأَمَّا الشَّيْءُ الَّذِي يُرَى فَيُقَالُ فِيهِ: عَوَجٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ كَالْحَائِطِ وَالْقَنَاةِ وَالشَّجَرَةِ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْبَغْيُ يُقْتَصَرُ لَهُ عَلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ اللَّامُ كَقَوْلِكَ: بَغَيْتُ الْمَالَ وَالْأَجْرَ وَالثَّوَابَ وَأُرِيدَ هَاهُنَا: تَبْغُونَ لَهَا عِوَجًا، ثُمَّ أُسْقِطَتِ اللَّامُ كَمَا قَالُوا: وَهَبْتُكَ دِرْهَمًا أَيْ وَهَبْتُ لَكَ دِرْهَمًا، وَمِثْلُهُ صِدْتُ لَكَ ظَبْيًا وَأَنْشَدَ:
فَتَوَلَّى غُلَامُهُمْ ثُمَّ نَادَى ... أَظَلِيمًا أَصِيدُكُمْ أَمْ حِمَارًا