وَيُعَلِّمُكُمْ وَيَمْنَحُكُمْ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ يُذَكِّرُكُمْ مَا قَلْتُ لَكُمْ» ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَلِيلٍ: «وَإِنِّي قَدْ خَبَّرْتُكُمْ بِهَذَا قَبْلَ أَنْ يَكُونَ حَتَّى إِذَا كَانَ ذَلِكَ تُؤْمِنُونَ» ، وَثَانِيهَا: ذَكَرَ فِي الْإِصْحَاحِ السَّادِسَ عَشَرَ هَكَذَا: «وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمُ الْآنَ حَقًّا يَقِينًا انْطِلَاقِي عَنْكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ، فَإِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ عَنْكُمْ إِلَى أَبِي لَمْ يَأْتِكُمُ الْفَارَقِلِيطُ، وَإِنِ انْطَلَقْتُ أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ، فَإِذَا جَاءَ هُوَ يُفِيدُ أَهْلَ الْعَالَمِ، وَيُدِينُهُمْ وَيَمْنَحُهُمْ وَيُوقِفُهُمْ عَلَى الْخَطِيئَةِ وَالْبِرِّ وَالدِّينِ» وَثَالِثُهَا: ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَلِيلٍ هَكَذَا: «فَإِنَّ لِي كَلَامًا كَثِيرًا أُرِيدُ أَنْ أَقُولَهُ لَكُمْ، وَلَكِنْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى قَبُولِهِ وَالِاحْتِفَاظِ بِهِ، وَلَكِنْ إِذَا جَاءَ رُوحُ الْحَقِّ إِلَيْكُمْ يُلْهِمُكُمْ وَيُؤَيِّدُكُمْ بِجَمِيعِ الْحَقِّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَتَكَلَّمُ بِدْعَةً مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ» هَذَا مَا فِي الْإِنْجِيلِ، فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِفَارَقَلِيطَ إِذَا/ جَاءَ يُرْشِدُهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَيُعَلِّمُهُمُ الشَّرِيعَةَ، وَهُوَ عِيسَى يَجِيءُ بَعْدَ الصَّلْبِ؟
نَقُولُ: ذَكَرَ الْحَوَارِيُّونَ فِي آخِرِ الْإِنْجِيلِ أَنَّ عِيسَى لَمَّا جَاءَ بَعْدَ الصَّلْبِ مَا ذَكَرَ شَيْئًا مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَمَا عَلَّمَهُمْ شَيْئًا مِنَ الْأَحْكَامِ، وَمَا لَبِثَ عِنْدَهُمْ إِلَّا لَحْظَةً، وَمَا تَكَلَّمَ إِلَّا قَلِيلًا، مِثْلَ أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا الْمَسِيحُ فَلَا تَظُنُّونِي مَيِّتًا، بَلْ أَنَا نَاجٍ عِنْدَ اللَّه نَاظِرٌ إِلَيْكُمْ، وَإِنِّي مَا أُوحِي بَعْدَ ذَلِكَ إِلَيْكُمْ» فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قِيلَ: هُوَ عِيسَى، وَقِيلَ: هُوَ مُحَمَّدٌ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ جَاءَهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ وَالْبَيِّنَاتِ الَّتِي تبين أن الذي جاء به إنما جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّه، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ أَيْ سَاحِرٌ مُبِينٌ. وَقَوْلُهُ:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أَيْ مَنْ أَقْبَحُ ظُلْمًا مِمَّنْ بَلَغَ افْتِرَاؤُهُ الْمَبْلَغَ الَّذِي يَفْتَرِي عَلَى اللَّه الْكَذِبَ وَأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا نَالُوهُ مِنْ نِعْمَةٍ وَكَرَامَةٍ فَإِنَّمَا نَالُوهُ مِنَ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ كَفَرُوا بِهِ وَكَذَبُوا عَلَى اللَّه وَعَلَى رَسُولِهِ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أَيْ لَا يوافقهم اللَّه لِلطَّاعَةِ عُقُوبَةً لَهُمْ.
وَفِي الْآيَةِ بَحْثٌ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: بِمَ انْتَصَبَ مُصَدِّقاً ومُبَشِّراً أَبِمَا فِي الرَّسُولِ مِنْ مَعْنَى الْإِرْسَالِ أَمْ إِلَيْكُمْ؟ نَقُولُ: بَلْ بِمَعْنَى الْإِرْسَالِ لِأَنَّ إِلَيْكُمْ صلة للرسول. ثم قال تعالى:
[سورة الصف (٦١) : الآيات ٨ الى ٩]
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩)
لِيُطْفِؤُا أَيْ أَنْ يُطْفِئُوا وَكَأَنَّ هَذِهِ اللَّامَ زِيدَتْ مَعَ فِعْلِ الْإِرَادَةِ تَأْكِيدًا لَهُ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْإِرَادَةِ فِي قَوْلِكَ: جِئْتُكَ لِإِكْرَامِكَ، كَمَا زِيدَتِ اللَّامُ فِي لَا أَبَا لَكَ، تأكيدا لمعنى الإضافة في أياك، وَإِطْفَاءُ نُورِ اللَّه تَعَالَى بِأَفْوَاهِهِمْ، تَهَكُّمٌ بِهِمْ فِي إِرَادَتِهِمْ إِبْطَالَ الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِمْ فِي الْقُرْآنِ: هذا سِحْرٌ [الصف: ٦] مُثِّلَتْ حَالُهُمْ بِحَالِ مَنْ يَنْفُخُ فِي نُورِ الشَّمْسِ بِفِيهِ لِيُطْفِئَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْكَشَّافِ، وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ قُرِئَ بِكَسْرِ الرَّاءِ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَالْأَصْلُ هُوَ التَّنْوِينُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُظْهِرُ دِينَهُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: مُتِمٌّ الْحَقَّ وَمُبَلِّغُهُ غَايَتَهُ، وَقِيلَ: دِينُ اللَّه، وَكِتَابُ اللَّه، وَرَسُولُ اللَّه، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْآثَارِ وَثَانِيهَا: أَنَّ نُورَ اللَّه سَاطِعٌ أَبَدًا وَطَالِعٌ مِنْ مَطْلَعٍ لَا يُمْكِنُ زَوَالُهُ أَصْلًا وَهُوَ الْحَضْرَةُ الْقُدْسِيَّةُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ كَذَلِكَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ النُّورَ نَحْوَ الْعِلْمِ، وَالظُّلْمَةَ نَحْوَ الْجَهْلِ، أَوِ النُّورُ الْإِيمَانُ يُخْرِجُهُمْ مِنَ/ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، أَوِ الْإِسْلَامُ هُوَ النُّورُ، أَوْ يُقَالُ: الدِّينُ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ سَائِقٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ إِلَى الْخَيِّرَاتِ بِاخْتِيَارِهِمُ الْمَحْمُودِ وَذَلِكَ هُوَ النُّورُ، وَالْكِتَابُ هُوَ الْمُبِينُ قَالَ تَعَالَى: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ [الشعراء: ٢] فَالْإِبَانَةُ وَالْكِتَابُ هُوَ النُّورُ، أَوْ يُقَالُ: الْكِتَابُ حُجَّةٌ لِكَوْنِهِ مُعْجِزًا، وَالْحُجَّةُ هُوَ النُّورُ، فَالْكِتَابُ كَذَلِكَ، أَوْ يُقَالُ فِي الرَّسُولِ: إِنَّهُ النُّورُ، وَإِلَّا لَمَا وُصِفَ بِصِفَةِ كَوْنِهِ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ، إِذِ الرَّحْمَةُ بِإِظْهَارِ مَا يَكُونُ مِنَ الْأَسْرَارِ وَذَلِكَ بِالنُّورِ، أَوْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute