الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الطَّائِرِ قَالَ أَبُو عبيدة: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ حَظُّهُمْ. وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا طَائِرُهُمْ مَا قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَقُدِّرَ لَهُمْ وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَطَرْتُ الْمَالَ وَطَيَّرْتُهُ بَيْنَ الْقَوْمِ فَطَارَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ سَهْمُهُ. أَيْ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ السَّهْمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ الْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ مَا يُصِيبُهُمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَهُوَ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِتَقْدِيرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْخَلْقِ يُضِيفُونَ الْحَوَادِثَ إِلَى الْأَسْبَابِ لمحسوسة وَيَقْطَعُونَهَا عَنْ قَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيرِهِ وَالْحَقُّ أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَهُوَ إِمَّا وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ أَوْ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَالْوَاجِبُ وَاحِدٌ وَمَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِإِيجَادِ الْوَاجِبِ لذته وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَكُونُ الْكُلُّ مِنَ اللَّهِ فَإِسْنَادُهَا إِلَى غَيْرِ اللَّهِ يَكُونُ جَهْلًا بِكَمَالِ اللَّهِ تعالى.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٢ الى ١٣٣]
وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُمْ لِجَهْلِهِمْ أَسْنَدُوا حَوَادِثَ هَذَا الْعَالَمِ لَا إِلَى قَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ فَحَكَى عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَوْعًا آخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ الْجَهَالَةِ وَالضَّلَالَةِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْمُعْجِزَاتِ وَبَيْنَ السِّحْرِ وَجَعَلُوا جُمْلَةَ الْآيَاتِ مِثْلَ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً مِنْ بَابِ السِّحْرِ مِنْهُمْ. وَقَالُوا لِمُوسَى: إِنَّا لَا نَقْبَلُ شَيْئًا مِنْهَا الْبَتَّةَ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَلِمَةِ مَهْما قولان: الاول: ان أصلها «ماما» الْأُولَى هِيَ «مَا» الْجَزَاءُ وَالثَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي تُزَادُ تَوْكِيدًا لِلْجَزَاءِ كَمَا تُزَادُ فِي سَائِرِ حُرُوفِ الْجَزَاءِ كَقَوْلِهِمْ: إِمَّا وَمِمَّا وَكَيْفَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ [الْأَنْفَالِ: ٥٩] وَهُوَ كَقَوْلِكَ: إِنْ تَثْقَفَنَّهُمْ ثُمَّ أَبْدَلُوا مِنْ أَلْفِ «مَا» الْأُولَى «هَا» كَرَاهَةً/ لِتَكْرَارِ اللَّفْظِ فَصَارَ «مَهْمَا» هَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ وَالْبَصْرِيِّينَ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ الْأَصْلُ «مَهِ» الَّتِي بِمَعْنَى الْكَفِّ أَيِ اكْفُفْ دَخَلَتْ عَلَى «مَا» الَّتِي لِلْجَزَاءِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا اكْفُفْ مَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ فَهُوَ كَذَا وَكَذَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا قَالُوا لِمُوسَى: مَهْمَا أَتَيْتَنَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ فَهِيَ عِنْدَنَا مِنْ بَابِ السِّحْرِ، وَنَحْنُ لَا نُؤْمِنُ بِهَا الْبَتَّةَ وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجُلًا حَدِيدًا فَعِنْدَ ذَلِكَ دَعَا عَلَيْهِمْ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ الدَّائِمَ لَيْلًا وَنَهَارًا سَبْتًا إِلَى سَبْتٍ، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَا يَرَى شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ مِنْ دَارِهِ وَجَاءَهُمُ الْغَرَقُ فَصَرَخُوا إِلَى فِرْعَوْنَ وَاسْتَغَاثُوا بِهِ فَأَرْسَلَ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ فَقَدْ صَارَتْ مِصْرُ بَحْرًا وَاحِدًا فَإِنْ كَشَفْتَ هَذَا الْعَذَابَ آمَنَّا بِكَ فَأَزَالَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمَطَرَ وَأَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَجَفَّفَتِ الْأَرْضَ وَخَرَجَ مِنَ النَّبَاتِ مَا لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ قَطُّ. فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي جَزِعْنَا مِنْهُ خَيْرٌ لَنَا لَكِنَّا لَمْ نَشْعُرْ. فَلَا وَاللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِكَ وَلَا نُرْسِلُ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَكَثُوا الْعَهْدَ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَرَادَ فَأَكَلَ النَّبَاتَ وَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ حَتَّى صَارَتْ عِنْدَ طَيَرَانِهَا تُغَطِّي الشَّمْسَ وَوَقَعَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأَرْضِ ذِرَاعًا فَأَكَلَتِ النَّبَاتَ فَصَرَخَ أَهْلُ مِصْرَ فَدَعَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى رِيحًا فَاحْتَمَلَتِ الْجَرَادَ فَأَلْقَتْهُ فِي الْبَحْرِ فَنَظَرَ أَهْلُ مِصْرَ إِلَى أَنَّ بَقِيَّةً مِنْ كَلَئِهِمْ وَزَرْعِهِمْ تَكْفِيهِمْ. فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي بَقِيَ يَكْفِينَا وَلَا نُؤْمِنُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute