للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَوْ فَتَّشُوا عَلَى أَخْلَاقِكُمْ وَطَبَائِعِكُمْ لَوَجَدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً، وَهَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَصِحُّ فِيمَنْ أَكْثَرُ أَحْوَالِهِ الرَّحْمَةُ وَالرَّأْفَةُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ غِلْظَةٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْغِلْظَةَ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ. وَذَلِكَ إِمَّا بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَالْبَيِّنَةِ، وَإِمَّا بِالْقِتَالِ وَالْجِهَادِ، فَأَمَّا أَنْ يَحْصُلَ هَذَا التَّغْلِيظُ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْمُجَالَسَةِ وَالْمُؤَاكَلَةِ فَلَا.

ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وَالْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ إِقْدَامُهُ عَلَى الْجِهَادِ وَالْقِتَالِ بِسَبَبِ تَقْوَى اللَّهِ لَا بِسَبَبِ طَلَبِ الْمَالِ وَالْجَاهِ، فَإِذَا رَآهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَحْجَمَ عَنْ قِتَالِهِ، وإذا رآه مال إلى قبوله الْجِزْيَةِ تَرَكَهُ، وَإِذَا كَثُرَ الْعَدُوُّ أَخَذَ الْغَنَائِمَ على وفق حكم الله تعالى.

[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٤ الى ١٢٥]

وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَخَازِي الْمُنَافِقِينَ وَذَكَرَ أَعْمَالَهُمُ الْقَبِيحَةَ فَقَالَ: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ، فَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا؟ وَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَقُولُ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ لِبَعْضٍ، وَمَقْصُودُهُمْ تَثْبِيتُهُمْ قَوْمَهُمْ عَلَى النِّفَاقِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يَقُولُونَهُ لِأَقْوَامٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَغَرَضُهُمْ صَرْفُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ.

وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَكَرُوهُ عَلَى وَجْهِ الْهُزْءِ، وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ. وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْكُلِّ، لِأَنَّ حِكَايَةَ الْحَالِ لَا تُفِيدُ الْعُمُومَ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ فَقَالَ إِنَّهُ حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِسَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ أَمْرَانِ، وَحَصَلَ لِلْكَافِرِينَ أَيْضًا أَمْرَانِ. أَمَّا الَّذِي حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ: فَالْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّهَا تَزِيدُهُمْ إِيمَانًا إِذْ لَا بُدَّ عِنْدَ نُزُولِهَا مِنْ أَنْ يُقِرُّوا بِهَا وَيَعْتَرِفُوا بِأَنَّهَا حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالْكَلَامُ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ بِالِاسْتِقْصَاءِ.

وَالثَّانِي: مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الِاسْتِبْشَارِ. فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَا يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ تِلْكَ التَّكَالِيفِ الزَّائِدَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى مَزِيدٍ فِي الثَّوَابِ، ثُمَّ جَمَعَ لِلْمُنَافِقِينَ أَمْرَيْنِ مُقَابِلَيْنِ لِلْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ:

وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَالْمُرَادُ مِنَ الرِّجْسِ إِمَّا الْعَقَائِدُ الْبَاطِلَةُ أَوِ الْأَخْلَاقُ الْمَذْمُومَةُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِالسُّوَرِ النَّازِلَةِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْآنَ صَارُوا مُكَذِّبِينَ بِهَذِهِ السُّورَةِ الْجَدِيدَةِ، فَقَدِ انْضَمَّ كُفْرٌ إِلَى كُفْرٍ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْحَسَدِ وَالْعَدَاوَةِ وَاسْتِنْبَاطِ وُجُوهِ الْمَكْرِ وَالْكَيْدِ، وَالْآنَ ازْدَادَتْ تِلْكَ الْأَخْلَاقُ الذَّمِيمَةُ بِسَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ الْجَدِيدَةِ.

وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْحَالَةُ كَالْأَمْرِ الْمُضَادِّ لِلِاسْتِبْشَارِ الَّذِي حَصَلَ فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ أَسْوَأُ وَأَقْبَحُ مِنَ الْحَالَةِ الْأُولَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَالَةَ الْأُولَى عِبَارَةٌ عَنِ ازْدِيَادِ الرَّجَاسَةِ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ عِبَارَةٌ عَنْ مُدَاوَمَةِ الْكُفْرِ وَمَوْتِهِمْ عَلَيْهِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَصُدُّ عَنِ الْإِيمَانِ وَيَصْرِفُ عَنْهُ، قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ سَمَاعَ هَذِهِ السُّورَةِ يُورِثُ حُصُولَ الْحَسَدِ وَالْحِقْدِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَنَّ حُصُولَ ذَلِكَ الْحَسَدِ يُورِثُ مَزِيدَ الْكُفْرِ فِي قُلُوبِهِمْ، أَجَابُوا وَقَالُوا نزول تلك

<<  <  ج: ص:  >  >>