للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَمْرًا ذَاتِيًّا لَهُمَا بَلْ بِجَعْلِ جَاعِلٍ فَتَارَةً جَعَلَ الْأَصْلَ التُّرَابَ وَتَارَةً الْمَاءَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَإِنْ شَاءَ جَعَلَ هَذَا أَصْلًا وَإِنْ شَاءَ جَعَلَ ذَلِكَ أَصْلًا، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُمَا أَصْلَيْنِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْحُكَمَاءُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبٌ مِنَ الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ التُّرَابُ وَالْمَاءُ وَالْهَوَاءُ وَالنَّارُ، وَقَالُوا التُّرَابُ فِيهِ لِثَبَاتِهِ، وَالْمَاءُ لِاسْتِمْسَاكِهِ، فَإِنَّ التُّرَابَ يَتَفَتَّتُ بِسُرْعَةٍ، وَالْهَوَاءُ لِاسْتِقْلَالِهِ كَالزِّقِّ الْمَنْفُوخِ يَقُومُ بِالْهَوَاءِ وَلَوْلَاهُ لَمَا كَانَ فِيهِ اسْتِقْلَالٌ وَلَا انْتِصَابٌ، وَالنَّارُ لِلنُّضْجِ وَالِالْتِئَامِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَكَيْفَ اعْتَبَرَ الْأَمْرَيْنِ فَحَسْبُ وَلَمْ يَقُلْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ نَارٍ وَلَا مِنْ رِيحٍ؟

فَنَقُولُ أَمَّا قَوْلُهُمْ فَلَا مَفْسَدَةَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الشَّرْعِ فَلَا نُنَازِعُهُمْ فِيهِ إِلَّا إِذَا قَالُوا بِأَنَّهُ بِالطَّبِيعَةِ كَذَلِكَ، وَأَمَّا إِنْ قَالُوا بِأَنَّ اللَّهَ بِحِكْمَتِهِ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلَا نُنَازِعُهُمْ فِيهِ، وَأَمَّا الْآيَاتُ فَنَقُولُ مَا ذَكَرْتُمْ لَا يُخَالِفُ هَذَا لِأَنَّ الْهَوَاءَ جَعَلْتُمُوهُ لِلِاسْتِقْلَالِ وَالنَّارَ لِلنُّضْجِ فَهُمَا يَكُونَانِ بَعْدَ امْتِزَاجِ الْمَاءِ بِالتُّرَابِ، فَالْأَصْلُ الْمَوْجُودُ أُولَاهُمَا لَا غَيْرَ/ فَلِذَلِكَ خَصَّهُمَا وَلِأَنَّ الْمَحْسُوسَ مِنَ الْعَنَاصِرِ فِي الْغَالِبِ هُوَ التُّرَابُ وَالْمَاءُ وَلَا سِيَّمَا كَوْنُهُمَا فِي الْإِنْسَانِ ظَاهِرٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فَخَصَّ الظاهر المحسوس بالذكر. ثم قال تعالى:

[[سورة الروم (٣٠) : آية ٢١]]

وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)

لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ خَلْقَ الْإِنْسَانِ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَبْقَى وَتَدُومُ سِنِينَ مُتَطَاوِلَةً أَبْقَى نَوْعَهُ بِالْأَشْخَاصِ وَجَعَلَهُ بِحَيْثُ يَتَوَالَدُ، فَإِذَا مَاتَ الْأَبُ يَقُومُ الِابْنُ مَقَامَهُ لِئَلَّا يُوجِبَ فَقْدُ الْوَاحِدِ ثُلْمَةً فِي الْعِمَارَةِ لَا تَنْسَدُّ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: خَلَقَ لَكُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ خُلِقْنَ كَخَلْقِ الدَّوَابِّ وَالنَّبَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ [الْبَقَرَةِ: ٢٩] وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا تَكُونَ مَخْلُوقَةً لِلْعِبَادَةِ وَالتَّكْلِيفِ فَنَقُولُ خَلْقُ النِّسَاءِ مِنَ النِّعَمِ عَلَيْنَا وَخَلْقُهُنَّ لَنَا وَتَكْلِيفُهُنَّ لِإِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَيْنَا لَا لِتَوْجِيهِ التَّكْلِيفِ نَحْوَهُنَّ مِثْلُ تَوْجِيهِهِ إِلَيْنَا وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ النَّقْلِ وَالْحُكْمِ وَالْمَعْنَى، أَمَّا النَّقْلُ فَهَذَا وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ تُكَلَّفْ بِتَكَالِيفٍ كَثِيرَةٍ كَمَا كُلِّفَ الرَّجُلُ بِهَا، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ ضَعِيفَةُ الْخَلْقِ سَخِيفَةٌ فَشَابَهَتِ الصَّبِيَّ لَكِنَّ الصَّبِيَّ، لَمْ يُكَلَّفْ فَكَانَ يُنَاسِبُ أَنْ لَا تُؤَهَّلَ الْمَرْأَةُ لِلتَّكْلِيفِ، لَكِنَّ النِّعْمَةَ عَلَيْنَا مَا كَانَتْ تَتِمُّ إِلَّا بِتَكْلِيفِهِنَّ لِتَخَافَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ الْعَذَابَ فَتَنْقَادُ لِلزَّوْجِ وَتَمْتَنِعُ عَنِ الْمُحَرَّمِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَظَهَرَ الْفَسَادُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مِنْ أَنْفُسِكُمْ بَعْضُهُمْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ جِسْمِ آدَمَ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مِنْ جِنْسِكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَةِ: ١٢٨] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:

لِتَسْكُنُوا إِلَيْها يَعْنِي أَنَّ الْجِنْسَيْنِ الْحَيَّيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ لَا يَسْكُنُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ أَيْ لَا تَثْبُتُ نَفْسُهُ مَعَهُ وَلَا يَمِيلُ قَلْبُهُ إِلَيْهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُقَالُ سَكَنَ إِلَيْهِ لِلسُّكُونِ الْقَلْبِيِّ وَيُقَالُ سَكَنَ عِنْدَهُ لِلسُّكُونِ الْجُسْمَانِيِّ، لِأَنَّ كَلِمَةَ عِنْدَ جَاءَتْ لِظَرْفِ الْمَكَانِ وَذَلِكَ لِلْأَجْسَامِ وَإِلَى لِلْغَايَةِ وَهِيَ لِلْقُلُوبِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً فِيهِ أَقْوَالٌ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَوَدَّةٌ بِالْمُجَامَعَةِ وَرَحْمَةٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>