للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَذَا الْحُكْمُ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ النَّاسِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ نَفَاذِ قُدْرَةِ اللَّهِ فِي تَكْوِينِ الْأَشْيَاءِ كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ فَلَمْ يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ مَعْنًى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلِيمٌ بِمَا خَلَقَ قَدِيرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ أن يخلقه والله أعلم.

[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٥١ الى ٥٣]

وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ أَنَّهُ كَيْفَ يَخُصُّ أَنْبِيَاءَهُ بِوَحْيِهِ وَكَلَامِهِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَما كانَ لِبَشَرٍ وَمَا صَحَّ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا عَلَى أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، إِمَّا عَلَى الْوَحْيِ وَهُوَ الْإِلْهَامُ وَالْقَذْفُ فِي الْقَلْبِ أَوِ الْمَنَامُ كَمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَى أُمِّ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَبْحِ وَلَدِهِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى الزَّبُورَ إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صَدْرِهِ، وَإِمَّا عَلَى أَنْ يُسْمِعَهُ كَلَامَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ مُبَلِّغٍ، وَهَذَا أَيْضًا وَحْيٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى أَسْمَعَ مُوسَى كَلَامَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ مَعَ أَنَّهُ سَمَّاهُ وَحْيًا، قَوْلُهُ تعالى: فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى [طه: ١٣] وَإِمَّا عَلَى أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ رَسُولًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَيُبَلِّغَ ذَلِكَ الْمَلَكُ ذَلِكَ الْوَحْيَ إِلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ فَطَرِيقُ الْحَصْرِ أَنْ يُقَالَ وُصُولُ الْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْبَشَرِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ مُبَلِّغٍ أَوْ يَكُونَ بِوَاسِطَةِ مُبَلِّغٍ، وَإِذَا كَانَ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ وَحْيُ اللَّهِ لَا بِوَاسِطَةِ شَخْصٍ آخَرَ فَهَهُنَا إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ/ لَمْ يَسْمَعْ عَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ يَسْمَعُهُ، أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِ الْوَحْيُ لَا بِوَاسِطَةِ شَخْصٍ آخَرَ وَمَا سَمِعَ عَيْنَ كَلَامِ الله فهو المراد بقوله إِلَّا وَحْياً وأم الثَّانِي وَهُوَ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِ الْوَحْيُ لَا بِوَاسِطَةِ شَخْصٍ آخَرَ وَلَكِنَّهُ سَمِعَ عَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِ الْوَحْيُ بِوَاسِطَةِ شَخْصٍ آخَرَ فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ وَحْيٌ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّصَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ بِاسْمِ الْوَحْيِ، لِأَنَّ مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْهَامِ فَهُوَ يَقَعُ دُفْعَةً فَكَانَ تَخْصِيصُ لَفْظِ الْوَحْيِ بِهِ أَوْلَى فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي تَمْيِيزِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ اللَّهَ فِي مَكَانٍ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا عَلَى أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مُخْتَصًّا بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ وَجِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَالْجَوَابُ: أَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ وَإِنْ أَوْهَمَ مَا ذَكَرْتُمْ إِلَّا أَنَّهُ دَلَّتِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ وَالنَّقْلِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَمْتَنِعُ حُصُولُهُ فِي الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ، فَوَجَبَ حَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى التَّأْوِيلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا سَمِعَ كَلَامًا مَعَ أَنَّهُ لَا يَرَى ذَلِكَ الْمُتَكَلِّمَ كَانَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِمَا إِذَا تَكَلَّمَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَالْمُشَابَهَةُ سَبَبٌ لجواز المجاز.

<<  <  ج: ص:  >  >>