للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَصَرَ أَقْسَامَ وَحْيِهِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَلَوْ صَحَّتْ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى لَصَحَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مَعَ الْعَبْدِ حَالَ مَا يَرَاهُ الْعَبْدُ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذَلِكَ قِسْمًا رَابِعًا زَائِدًا عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى نَفَى الْقِسْمَ الرَّابِعَ بِقَوْلِهِ وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ وَالْجَوَابُ نَزِيدُ فِي اللَّفْظِ قَيْدًا فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ، وَزِيَادَةُ هَذَا الْقَيْدِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ لَكِنَّهُ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَبَيْنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى حُصُولِ الرُّؤْيَةِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ، وَمَنْ سِوَى الْأَشْعَرِيِّ وَأَتْبَاعِهِ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ هُوَ هَذِهِ الْحُرُوفُ الْمَسْمُوعَةُ وَالْأَصْوَاتُ الْمُؤَلَّفَةُ، وَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ وَأَتْبَاعُهُ فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ قَدِيمَةٌ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِهَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ.

أَمَّا الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ: وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ هَذِهِ الْحُرُوفُ وَالْكَلِمَاتُ فَهُمْ فَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا:

الْحَنَابِلَةُ الَّذِينَ قَالُوا بِقِدَمِ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَهَؤُلَاءِ أَخَسُّ مِنْ أَنْ يُذْكَرُوا فِي زُمْرَةِ الْعُقَلَاءِ، وَاتَّفَقَ أَنِّي قُلْتُ يَوْمًا لِبَعْضِهِمْ لَوْ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ إِمَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ وَالتَّوَالِي وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ بِجُمْلَةِ هَذِهِ الْحُرُوفِ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَا يُفِيدُ هَذَا النَّظْمَ الْمُرَكَّبَ عَلَى هَذَا التَّعَاقُبِ وَالتَّوَالِي، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا النَّظْمُ الْمُرَكَّبُ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ/ الْمُتَوَالِيَةِ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالثَّانِي: بَاطِلٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ تَكَلَّمَ بِهَا عَلَى التَّوَالِي وَالتَّعَاقُبِ كَانَتْ مُحْدَثَةً، وَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ هَذَا الْكَلَامَ قَالَ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُقِرَّ وَنَمُرَّ، يَعْنِي نُقِرُّ بِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ وَنَمُرُّ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ عَلَى وَفْقِ مَا سَمِعْنَاهُ فَتَعَجَّبْتُ مِنْ سَلَامَةِ قَلْبِ ذَلِكَ الْقَائِلِ، وَأَمَّا الْعُقَلَاءُ مِنَ النَّاسِ فَقَدْ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ كَائِنَةٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ حَاصِلَةٌ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً، ثُمَّ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي أَنَّهَا هَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ، أَوْ لَا يُقَالُ ذَلِكَ، بَلْ يُقَالُ إِنَّهَا حَادِثَةٌ أَوْ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِعِبَارَةٍ أُخْرَى، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ هَلْ هِيَ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ يَخْلُقُهَا فِي جِسْمٍ آخَرَ، فَالْأَوَّلُ: هُوَ قَوْلُ الْكَرَّامِيَّةِ وَالثَّانِي: قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا الْأَشْعَرِيَّةُ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهَا هَذِهِ الْأَلْفَاظُ وَالْعِبَارَاتُ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ هُوَ أَنَّ الْمَلَكَ وَالرَّسُولَ يَسْمَعُ ذَلِكَ الْكَلَامَ الْمُنَزَّهَ عَنِ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، قَالُوا وَكَمَا لَا يَبْعُدُ أَنْ تَرَى ذَاتَ اللَّهِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا فِي حَيِّزٍ فَأَيُّ بُعْدٍ فِي أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَرْفًا وَلَا صَوْتًا؟ وَزَعَمَ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ أَنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ الْقَائِمَةَ يَمْتَنِعُ كَوْنُهَا مَسْمُوعَةً، وَإِنَّمَا الْمَسْمُوعُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الشَّجَرَةِ وَهَذَا الْقَوْلُ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْقَاضِي هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ لِأَنَّ كَلِمَةَ أَنْ مَعَ الْمُضَارِعِ تُفِيدُ الِاسْتِقْبَالَ الثَّانِي: أَنَّهُ وَصَفَ الْكَلَامَ بِأَنَّهُ وَحْيٌ لِأَنَّ لَفْظَ الْوَحْيِ يُفِيدُ أَنَّهُ وَقَعَ عَلَى أَسْرَعِ الْوُجُوهِ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الَّذِي يُبَلِّغُهُ الْمَلَكُ إِلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِ مِثْلَ الْكَلَامِ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ وَالَّذِي يُبَلِّغُهُ إِلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ حَادِثٌ، فَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ مُمَاثِلًا لِهَذَا الَّذِي بَلَّغَهُ إِلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ، وَهَذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>