للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْوَحْيَ إِلَيْهِمْ وَقَعَ فِي تَرْكِ وَحْيِ اللَّه تَعَالَى وَفِي إِيقَاعِ الْخِيَانَةِ فِيهِ، فَإِذًا لَا بُدَّ مِنْ تَحَمُّلِ أَحَدِ الضَّرَرَيْنِ وَتَحَمُّلُ سَفَاهَتِهِمْ أَسْهَلُ مِنْ تَحَمُّلِ إِيقَاعِ الْخِيَانَةِ فِي وَحْيِ اللَّه تَعَالَى، وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذِهِ الدَّقِيقَةِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ طَرَفَيِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ يَشْتَمِلُ عَلَى ضَرَرٍ عَظِيمٍ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الضَّرَرَ فِي جَانِبِ التَّرْكِ أَعْظَمُ وَأَقْوَى سَهُلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ وَخَفَّ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ مَا ذَكَرْنَاهُ.

فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: فَلَعَلَّكَ كَلِمَةُ شَكٍّ فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهَا؟

قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْهُ الزَّجْرُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادُوا إِبْعَادَهُ عَنْ أَمْرٍ لَعَلَّكَ تَقْدِرُ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا مَعَ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِيهِ، وَيَقُولُ لِوَلَدِهِ لَوْ أَمَرَهُ لَعَلَّكَ تُقَصِّرُ فِيمَا أَمَرْتُكَ بِهِ وَيُرِيدُ تَوْكِيدَ الْأَمْرِ فَمَعْنَاهُ لَا تَتْرُكْ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ فَالضَّائِقُ بِمَعْنَى الضَّيِّقِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الضَّائِقَ يَكُونُ بِضِيقٍ عَارِضٍ غَيْرِ لَازِمٍ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَفْسَحَ النَّاسِ صَدْرًا، وَمِثْلُهُ قَوْلُكَ: زَيْدٌ سَيِّدٌ جَوَادٌ تُرِيدُ السِّيَادَةَ وَالْجُودَ الثَّابِتَيْنِ الْمُسْتَقِرَّيْنِ، فَإِذَا أَرَدْتَ الْحُدُوثَ قُلْتَ: سَائِدٌ/ وَجَائِدٌ، وَالْمَعْنَى: ضَائِقٌ صَدْرُكَ لِأَجْلِ أَنْ يَقُولُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ.

فَإِنْ قِيلَ: الْكَنْزُ كَيْفَ يَنْزِلُ؟

قُلْنَا: الْمُرَادُ مَا يُكْنَزُ وَجَرَتِ الْعَادَةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَمَّى الْمَالُ الْكَثِيرُ بِهَذَا الِاسْمِ، فَكَأَنَّ الْقَوْمَ قَالُوا: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فِي أَنَّكَ رَسُولُ الْإِلَهِ الَّذِي تَصِفُهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّكَ عَزِيزٌ عِنْدَهُ فَهَلَّا أَنْزَلَ عَلَيْكَ مَا تَسْتَغْنِي بِهِ وَتُغْنِي أَحْبَابَكَ مِنَ الْكَدِّ وَالْعَنَاءِ وَتَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مُهِمَّاتِكَ وَتُعِينُ أَنْصَارَكَ وَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَهَلَّا أَنْزَلَ اللَّه مَعَكَ مَلَكًا يَشْهَدُ لَكَ عَلَى صِدْقِ قَوْلِكَ وَيُعِينُكَ عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِكَ فَتَزُولَ الشُّبْهَةُ فِي أَمْرِكَ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ إِلَهُكَ ذَلِكَ فَأَنْتَ غَيْرُ صَادِقٍ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ رَسُولٌ مُنْذِرٌ بِالْعِقَابِ وَمُبَشِّرٌ بِالثَّوَابِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى إِيجَادِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.

وَالَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ وَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ وَفِي حُكْمِهِ.

وَمَعْنَى وَكِيلٌ حَفِيظٌ أَيْ يَحْفَظُ عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ، أَيْ يُجَازِيهِمْ بِهَا وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً [الْفُرْقَانِ: ١٠] وَقَوْلُهُ:

قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إِلَى قَوْلِهِ: قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: ٩٠- ٩٣] .

[[سورة هود (١١) : آية ١٣]]

أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣)

اعلم أن القول لَمَّا طَلَبُوا مِنْهُ الْمُعْجِزَ قَالَ مُعْجِزِي هَذَا الْقُرْآنُ وَلَمَّا حَصَلَ الْمُعْجِزُ الْوَاحِدُ كَانَ طَلَبُ الزِّيَادَةِ بَغْيًا وَجَهْلًا، ثُمَّ قَرَّرَ كَوْنَهُ مُعْجِزًا بِأَنْ تَحَدَّاهُمْ بِالْمُعَارَضَةِ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ بِالِاسْتِقْصَاءِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ وَفِي سُورَةِ يُونُسَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: افْتَراهُ عَائِدٌ إِلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: يُوحى إِلَيْكَ أَيْ إِنْ قَالُوا إِنَّ هَذَا الَّذِي يُوحَى إِلَيْكَ مُفْتَرًى فَقُلْ لَهُمْ حَتَّى يَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَقَوْلُهُ مِثْلِهِ بِمَعْنَى أَمْثَالِهِ حَمْلًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ السُّوَرِ وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْمَجْمُوعَ، لِأَنَّ مَجْمُوعَ السُّوَرِ الْعَشْرَةِ شَيْءٌ وَاحِدٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ السُّورَةُ الَّتِي وَقَعَ بِهَا هَذَا التَّحَدِّي مُعَيَّنَةٌ، وَهِيَ سُورَةُ/ الْبَقَرَةِ وَآلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>