نَمْلِكُ إِلَّا أَنْفُسَنَا، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَخِي مَعْطُوفًا عَلَى نَفْسِي فَيَكُونَ الْمَعْنَى لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي، وَلَا أَمْلِكُ إِلَّا أَخِي، لِأَنَّ أَخَاهُ إِذَا كَانَ مُطِيعًا لَهُ فَهُوَ مَالِكُ طَاعَتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي، وَكَانَ مَعَهُ الرَّجُلَانِ الْمَذْكُورَانِ؟
قُلْنَا: كَأَنَّهُ لَمْ يَثِقْ بِهِمَا كُلَّ الْوُثُوقِ لِمَا رَأَى مِنْ إِطْبَاقِ الْأَكْثَرِينَ عَلَى التَّمَرُّدِ، وَأَيْضًا لَعَلَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَقْلِيلًا لِمَنْ يُوَافِقُهُ، وَأَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَخِ مَنْ يُوَاخِيهِ فِي الدِّينِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَكَانَا دَاخِلَيْنِ فِي قَوْلِهِ وَأَخِي.
ثُمَّ قَالَ: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ يَعْنِي فَافْصِلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِأَنْ تَحْكُمَ لَنَا بِمَا نَسْتَحِقُّ وَتَحْكُمَ عَلَيْهِمْ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ خَلِّصْنَا مِنْ صُحْبَتِهِمْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: ٢١] .
ثم أنه تعالى قال:
[[سورة المائدة (٥) : آية ٢٦]]
قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ فَإِنَّها أَيِ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِالتَّحْرِيمِ، أَيِ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ فَتَحَ اللَّه تَعَالَى تِلْكَ الْأَرْضَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ مُحَارَبَةٍ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِقَوْلِهِ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أَيْ بَقُوا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَمَّا الْحُرْمَةُ فَقَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِمْ وَمَاتُوا، ثُمَّ إِنَّ أَوْلَادَهُمْ دَخَلُوا تِلْكَ الْبَلْدَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُحْتَمَلُ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ فِي دُعَائِهِ عَلَى الْقَوْمِ فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [الْمَائِدَةِ: ٢٥] لَمْ يَقْصِدْ بِدُعَائِهِ هَذَا الْجِنْسَ مِنَ الْعَذَابِ، بَلْ أَخَفَّ مِنْهُ. فَلَمَّا أَخْبَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِالتِّيهِ عَلِمَ أَنَّهُ يَحْزَنُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَعَزَّاهُ وَهَوَّنَ أَمْرَهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ مُوسَى لَمَّا دَعَا عَلَيْهِمْ أَخْبَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَحْوَالِ التِّيهِ، ثُمَّ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَ قَوْمَهُ بِذَلِكَ، فَقَالُوا لَهُ: لِمَ دَعَوْتَ عَلَيْنَا وَنَدِمَ مُوسَى عَلَى مَا عمل، فأوحى اللَّه تعالى إليه فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لَا تَحْزَنْ عَلَى قَوْمٍ لَمْ يَزَلْ شَأْنُهُمُ الْمَعَاصِيَ وَمُخَالَفَةَ الرُّسُلِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ هَلْ بَقِيَا فِي التِّيهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ قَوْمٌ:
إِنَّهُمَا مَا كَانَا فِي التِّيهِ، قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا اللَّه يَفْرُقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، وَدَعَوَاتُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُجَابَةٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ التِّيهَ كَانَ عَذَابًا وَالْأَنْبِيَاءُ لَا يُعَذَّبُونَ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا عُذِّبُوا بِسَبَبِ أَنَّهُمْ تَمَرَّدُوا وَمُوسَى وَهَارُونُ مَا كَانَا كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَعَ أُولَئِكَ الْفَاسِقِينَ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُمَا كَانَا مَعَ الْقَوْمِ فِي ذَلِكَ التِّيهِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى سَهَّلَ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ الْعَذَابَ كَمَا سَهَّلَ النَّارَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ فَجَعَلَهَا بَرْدًا وَسَلَامًا، ثُمَّ