إِذَا وَاظَبَ الْإِنْسَانُ عَلَى عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ وكرر مَرَّاتٍ وَكَرَّاتٍ حَصَلَتْ مَلَكَةٌ قَوِيَّةٌ رَاسِخَةٌ فِي جَوْهَرِ النَّفْسِ فَهَذِهِ آثَارٌ صَعِدَتْ مِنَ الْبَدَنِ إِلَى النَّفْسِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا حَضَرَ الذِّكْرَ اللِّسَانِيَّ بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ، حَصَلَ أَثَرٌ مِنْ ذَلِكَ الذِّكْرِ/ اللِّسَانِيِّ فِي الْخَيَالِ، ثُمَّ يَصْعَدُ مِنْ ذَلِكَ الْأَثَرِ الْخَيَالِيِّ مَزِيدُ أَنْوَارٍ وَجَلَايَا إِلَى جَوْهَرِ الرُّوحِ، ثُمَّ تَنْعَكِسُ مِنْ تِلْكَ الْإِشْرَاقَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ آثَارٌ زَائِدَةٌ إِلَى اللِّسَانِ وَمِنْهُ إِلَى الْخَيَالِ، ثُمَّ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى الْعَقْلِ، وَلَا يَزَالُ تَنْعَكِسُ هَذِهِ الْأَنْوَارُ مِنْ هَذِهِ الْمَرَايَا بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَيَتَقَوَّى بعضها بعض وَيَسْتَكْمِلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَلَمَّا كَانَ لَا نِهَايَةَ لِتَزَايُدِ أَنْوَارِ الْمَرَاتِبِ، لَا جَرَمَ لَا نِهَايَةَ لِسَفَرِ الْعَارِفِينَ فِي هَذِهِ الْمَقَامَاتِ الْعَالِيَةِ الْقُدْسِيَّةِ وَذَلِكَ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ، وَمَطْلُوبٌ لَا نِهَايَةَ لَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ خِطَابًا مَعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَّا أَنَّهُ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ الْمُكَلَّفِينَ وَلِكُلِّ أَحَدٍ دَرَجَةٌ مَخْصُوصَةٌ وَمَرْتَبَةٌ مُعَيَّنَةٌ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِ جَوْهَرِ نَفْسِهِ النَّاطِقَةِ كَمَا قَالَ فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصَّافَّاتِ: ١٦٤] .
[[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٦]]
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَمَّا رَغَّبَ اللَّه رَسُولَهُ فِي الذِّكْرِ وَفِي الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ ذَكَرَ عَقِيبَهُ مَا يُقَوِّي دَوَاعِيَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعَ نِهَايَةِ شَرَفِهِمْ وَغَايَةِ طَهَارَتِهِمْ وَعِصْمَتِهِمْ وَبَرَاءَتِهِمْ عَنْ بَوَاعِثِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ، وَحَوَادِثِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ، لَمَّا كَانُوا مُوَاظِبِينَ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ وَالسُّجُودِ وَالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ، فَالْإِنْسَانُ مَعَ كَوْنِهِ مُبْتَلًى بِظُلُمَاتِ عَالَمِ الْجُسْمَانِيَّاتِ وَمُسْتَعِدًّا لِلَّذَّاتِ الْبَشَرِيَّةِ وَالْبَوَاعِثِ الْإِنْسَانِيَّةِ أَوْلَى بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مَرْيَمَ: ٣١] وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحِجْرِ:
٩٩] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُشَبِّهَةُ تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ وَقَالُوا لَفْظُ عِنْدَ مُشْعِرٌ بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ.
وَجَوَابُهُ أَنَّا ذَكَرْنَا الْبَرَاهِينَ الْكَثِيرَةَ الْعَقْلِيَّةَ وَالنَّقْلِيَّةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: ٥٤ يونس: ٣] عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ تَعَالَى حَاصِلًا فِي الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى التَّأْوِيلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ:
/ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَهُوَ مَعَكُمْ [الْحَدِيدِ: ٤] وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ المعية بالفضل والرحمة لا بالجهة فكذا هاهنا، وَأَيْضًا
جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ الرَّبَّانِيَّةِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: «أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ لِأَجْلِي»
وَلَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ الْعِنْدِيَّةَ لَيْسَتْ لِأَجْلِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ، فَكَذَا هُنَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ القرب بالشرف. يقال: لِلْوَزِيرِ قُرْبَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْأَمِيرِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْقُرْبَ بِالْجِهَةِ، لِأَنَّ الْبَوَّابَ وَالْفَرَّاشَ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْمَلِكِ فِي الْجِهَةِ وَالْحَيِّزِ وَالْمَكَانِ مِنَ الْوَزِيرِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْقُرْبَ