للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْقَيْدُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ الذِّكْرُ بِحَيْثُ يَكُونُ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا [الْإِسْرَاءُ: ١١٠] وَقَالَ عَنْ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مَرْيَمَ: ٣] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ: وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ الْمَعْنَى أَنْ يَذْكُرَ رَبَّهُ عَلَى وَجْهٍ يُسْمِعُ نَفْسَهُ، فَإِنَّ الْمُرَادَ حُصُولُ الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ، وَالذِّكْرُ اللِّسَانِيُّ إِذَا كَانَ بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ، فَإِنَّهُ يَتَأَثَّرُ الْخَيَالُ مِنْ ذَلِكَ الذِّكْرِ، وَتَأَثُّرُ الْخَيَالِ يُوجِبُ قُوَّةً فِي الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ الرُّوحَانِيِّ، وَلَا يَزَالُ يَتَقَوَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ، وَتَنْعَكِسُ أَنْوَارُ هَذِهِ الْأَذْكَارِ مِنْ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَتَصِيرُ هَذِهِ الِانْعِكَاسَاتُ سَبَبًا لِمَزِيدِ الْقُوَّةِ وَالْجَلَاءِ وَالِانْكِشَافِ وَالتَّرَقِّي مِنْ حَضِيضِ ظُلُمَاتِ عَالَمِ الْأَجْسَامِ إِلَى أَنْوَارِ مُدَبِّرِ النُّورِ وَالظَّلَامِ.

وَالْقَيْدُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وهاهنا مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي لَفْظِ «الْغُدُوِّ» قَوْلَانِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَصْدَرٌ يُقَالُ غَدَوْتُ أَغْدُو غدواً غدوا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: غُدُوُّها شَهْرٌ [سَبَأٍ: ١٢] / أَيْ غُدُوُّهَا لِلسَّيْرِ، ثُمَّ سُمِّيَ وَقْتُ الْغُدُوِّ غُدُوًّا، كَمَا يُقَالُ: دَنَا الصَّبَاحُ أَيْ وَقْتُهُ، وَدَنَا الْمَسَاءُ أَيْ وَقْتُهُ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْغُدُوُّ جَمْعُ غُدْوَةٍ، قَالَ اللَّيْثُ: الْغُدُوُّ جَمْعٌ مثل الغدوات وواحد الغدوات غدوة، وأما الْآصالِ فَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَاحِدُهَا أُصُلٌ وَوَاحِدُ الْأُصُلِ الْأَصِيلُ. قَالَ يُقَالُ جِئْنَاهُمْ مُؤَصِّلِينَ أَيْ عِنْدَ الْآصَالِ، وَيُقَالُ الْأَصِيلُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَصْلِ وَالْيَوْمُ بِلَيْلَتِهِ، إنما يبتدأ بِالشُّرُوعِ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَآخَرُ نَهَارِ كُلِّ يَوْمٍ مُتَّصِلٌ بِأَوَّلِ لَيْلِ الْيَوْمِ الثَّانِي، فَسُمِّيَ آخِرُ النَّهَارِ أَصِيلًا، لِكَوْنِهِ مُلَاصِقًا لِمَا هُوَ الْأَصْلُ لِلْيَوْمِ الثَّانِي.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: خُصَّ الْغُدُوُّ وَالْآصَالُ بِهَذَا الذِّكْرِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنْ عِنْدَ الْغَدْوَةِ انْقَلَبَ الْإِنْسَانُ مِنَ النَّوْمِ الَّذِي هُوَ كَالْمَوْتِ إِلَى الْيَقَظَةِ الَّتِي هِيَ كَالْحَيَاةِ، وَالْعَالَمُ انْقَلَبَ مِنَ الظُّلْمَةِ الَّتِي هِيَ طَبِيعَةٌ عَدَمِيَّةٌ إِلَى النُّورِ الَّذِي هُوَ طَبِيعَةٌ وُجُودِيَّةٌ. وَأَمَّا عِنْدَ الْآصَالِ فَالْأَمْرُ بِالضِّدِّ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْقَلِبُ فِيهِ مِنَ الْحَيَاةِ إِلَى الْمَوْتِ، وَالْعَالَمُ يَنْقَلِبُ فِيهِ مِنَ النُّورِ الْخَالِصِ إِلَى الظُّلْمَةِ الْخَالِصَةِ، وَفِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ يَحْصُلُ هَذَانِ النَّوْعَانِ مِنَ التَّغْيِيرِ الْعَجِيبِ الْقَوِيِّ الْقَاهِرِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ هَذَا التَّغْيِيرِ إِلَّا الْإِلَهُ الْمَوْصُوفُ بِالْحِكْمَةِ الْبَاهِرَةِ وَالْقُدْرَةِ الْغَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ، فَلِهَذِهِ الْحِكْمَةِ الْعَجِيبَةِ خَصَّ اللَّه تَعَالَى هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ بِالْأَمْرِ بِالذِّكْرِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: ذَكَرَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَالْمُرَادُ مُدَاوَمَةُ الذِّكْرِ وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [الْأَعْرَافِ: ١٩١] لَوْ حَصَلَ لِابْنِ آدَمَ حَالَةٌ رَابِعَةٌ سِوَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَأَمَرَ اللَّه بِالذِّكْرِ عِنْدَهَا وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالذِّكْرِ عَلَى الدَّوَامِ.

وَالْقَيْدُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّ قَوْلَهُ: بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ حَاصِلًا فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ وَقَوْلُهُ: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ الْقَلْبِيَّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ دَائِمًا، وَأَنْ لَا يَغْفُلَ الْإِنْسَانُ لَحْظَةً وَاحِدَةً عَنِ اسْتِحْضَارِ جَلَالِ اللَّه وَكِبْرِيَائِهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَالْقُوَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ، أَنَّ بَيْنَ الرُّوحِ وَبَيْنَ الْبَدَنِ عَلَاقَةً عَجِيبَةً، لِأَنَّ كُلَّ أَثَرٍ حَصَلَ فِي جَوْهَرِ الرُّوحِ نَزَلَ مِنْهُ أَثَرٌ إِلَى الْبَدَنِ، وَكُلُّ حَالَةٍ حَصَلَتْ فِي الْبَدَنِ صَعَدَتْ مِنْهَا نَتَائِجُ إِلَى الرُّوحِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَخَيَّلَ الشَّيْءَ الْحَامِضَ ضَرِسَ سِنُّهُ، وَإِذَا تَخَيَّلَ حَالَةً مَكْرُوهَةً وَغَضِبَ سَخِنَ بَدَنُهُ، فَهَذِهِ آثَارٌ تَنْزِلُ مِنَ الرُّوحِ إِلَى الْبَدَنِ، وَأَيْضًا

<<  <  ج: ص:  >  >>