دَلِيلًا عَلَى أَنَّ سُكُوتَهُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لَمْ يَكُنْ لِظُهُورِ الْأَمْرِ بَلْ لِخَفَائِهِ وَغَرَابَتِهِ، وَهَذَا وَجْهٌ بَلِيغٌ، وَفِيهِ وَجْهٌ ظَاهِرٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ كَأَنَّهُ قَالَ: وَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا هُمْ؟ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ غَيْرَ أَنَّهُ أَقَامَ الْمُظْهَرَ مَقَامَ الْمُضْمَرِ وَقَالَ: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَالْإِتْيَانُ بِالْمُظْهَرِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْظِيمِ أَمْرِهِمْ حَيْثُ ذَكَرَهُمْ ظاهرا مرتين وكذلك القول في قوله تعالى: وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وكذلك في قوله: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة: ١، ٢] وفي قوله: الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ [الْقَارِعَةُ: ١، ٢] .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِ لفظ الْمَشْئَمَةِ فِي مُقَابَلَةِ الْمَيْمَنَةِ، مَعَ أَنَّهُ قَالَ فِي بَيَانِ أَحْوَالِهِمْ: وَأَصْحابُ الشِّمالِ مَا أَصْحابُ الشِّمالِ؟ نَقُولُ: الْيَمِينُ وُضِعَ لِلْجَانِبِ الْمَعْرُوفِ أَوَّلًا ثُمَّ تَفَاءَلُوا بِهِ وَاسْتَعْمَلُوا مِنْهُ أَلْفَاظًا فِي مَوَاضِعَ وَقَالُوا: هَذَا مَيْمُونٌ وَقَالُوا: أَيْمِنْ بِهِ وَوَضَعُوا لِلْجَانِبِ الْمُقَابِلِ/ لَهُ الْيَسَارَ مِنَ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ إِشَارَةً إِلَى ضَعْفِهِ، فَصَارَ فِي مُقَابَلَةِ الْيَمِينِ كَيْفَمَا يَدُورُ فَيُقَالُ: فِي مُقَابَلَةِ الْيُمْنَى الْيُسْرَى، وَفِي مُقَابَلَةِ الْأَيْمَنِ الْأَيْسَرُ، وَفِي مُقَابَلَةِ الْمَيْمَنَةِ الْمَيْسَرَةُ، وَلَا تُسْتَعْمَلُ الشِّمَالُ كَمَا تُسْتَعْمَلُ الْيَمِينُ، فَلَا يُقَالُ: الْأَشْمَلُ وَلَا الْمَشْمَلَةُ، وَتُسْتَعْمَلُ الْمَشْأَمَةُ كَمَا تُسْتَعْمَلُ الْمَيْمَنَةُ، فَلَا يُقَالُ: فِي مُقَابَلَةِ الْيَمِينِ لَفْظٌ مِنْ بَابِ الشُّؤْمِ، وَأَمَّا الشَّآمُ فَلَيْسَ فِي مُقَابَلَةِ الْيَمِينِ بَلْ فِي مُقَابَلَةِ يمان، إذا علم هذا فنقول: بعد ما قَالُوا بِالْيَمِينِ لَمْ يَتْرُكُوهُ وَاقْتَصَرُوا عَلَى اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْيَمِينِ فِي الْجَانِبِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْآدَمِيِّ، وَلَفْظِ الشِّمَالِ فِي مُقَابَلَتِهِ وَحَدَثَ لَهُمْ لَفْظَانِ آخَرَانِ فِيهِ أَحَدُهُمَا: الشِّمَالُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى الْكَوَاكِبِ مِنَ السَّمَاءِ وَجَعَلُوا مَمَرَّهَا وَجْهَ الْإِنْسَانِ وَجَعَلُوا السَّمَاءَ جَانِبَيْنِ وَجَعَلُوا أَحَدَهُمَا أَقْوَى كَمَا رَأَوْا فِي الْإِنْسَانِ، فَسَمَّوُا الْأَقْوَى بِالْجَنُوبِ لقوة الجانب كما يقال: غضوب ورؤوف، ثُمَّ رَأَوْا فِي مُقَابَلَةِ الْجَنُوبِ جَانِبًا آخَرَ شَمِلَ ذَلِكَ الْجَانِبُ عِمَارَةَ الْعَالَمِ فَسَمَّوْهُ شِمَالًا وَاللَّفْظُ الْآخَرُ:
الْمَشْأَمَةُ وَالْأَشْأَمُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَيْمَنَةِ وَالْأَيْمَنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَخَذُوا مِنَ الْيَمِينِ الْيُمْنَ وَغَيْرَهُ لِلْتَفَاؤُلِ وَضَعُوا الشُّؤْمَ فِي مُقَابَلَتِهِ لَا فِي أَعْضَائِهِمْ وَجَوَانِبِهِمْ تَكَرُّهًا لِجَعْلِ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ نَفْسِهِ شُؤْمًا، وَلَمَّا وَضَعُوا ذَلِكَ وَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ نَقَلُوا الْيَمِينَ مِنَ الْجَانِبِ إِلَى غَيْرِهِ، فاللَّه تَعَالَى ذَكَرَ الْكُفَّارَ بِلَفْظَيْنِ مختلفين فقال: وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَأَصْحابُ الشِّمالِ [الواقعة: ٤١] وَتَرَكَ لَفْظَ الْمَيْسَرَةِ وَالْيَسَارِ الدَّالِ عَلَى هَوْنِ الأمر، فقال هاهنا: وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ بِأَفْظَعِ الِاسْمَيْنِ، وَلِهَذَا قَالُوا فِي الْعَسَاكِرِ: الْمَيْمَنَةُ والميسرة اجتنابا من لفظ الشؤم. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي إِعْرَابِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: وَالسَّابِقُونَ عطف على فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ [الواقعة:
٨] وعنده تم الكلام، وقوله: وَالسَّابِقُونَ ... أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: أَنْتَ أَنْتَ وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي
وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِشُهْرَةِ أَمْرِ الْمُبْتَدَأِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْخَبَرِ عَنْهُ وَهُوَ مُرَادُ الشَّاعِرِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ النُّحَاةِ وَالثَّانِي: لِلْإِشَارَةِ إلى أن في المبتدأ مالا يُحِيطُ الْعِلْمُ بِهِ وَلَا يُخْبَرُ عَنْهُ وَلَا يُعْرَفُ مِنْهُ إِلَّا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute