للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَهْلَكَ الْكُفَّارَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: الْإِهْلَاكُ وَالتَّعْذِيبُ كَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّحِيمِ الْكَرِيمِ. فَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنِّي إِنَّمَا خَلَقْتُ الْخَلْقَ لِيَكُونُوا مُشْتَغِلِينَ بِالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ فَإِذَا تَرَكُوهَا/ وَأَعْرَضُوا عَنْهَا وَجَبَ فِي الْحِكْمَةِ إِهْلَاكُهُمْ وَتَطْهِيرُ وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْهُمْ، وَهَذَا النَّظْمُ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، قَالَ الْجُبَّائِيُّ:

دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا خلق السموات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا حَقًّا وَبِكَوْنِ الْحَقِّ لَا يَكُونُ الْبَاطِلَ، لِأَنَّ كُلَّ مَا فُعِلَ بَاطِلًا وَأُرِيدَ بِفِعْلِهِ كَوْنَ الْبَاطِلِ لَا يَكُونُ حَقًّا وَلَا يَكُونُ مَخْلُوقًا بِالْحَقِّ، وَفِيهِ بُطْلَانُ مَذْهَبِ الْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا خلقه الله تعالى بين السموات وَالْأَرْضِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي بَاطِلٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْخَالِقُ لِجَمِيعِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ، لِأَنَّهَا تدل على أنه سبحانه هو الخالق للسموات وَالْأَرْضِ وَلِكُلِّ مَا بَيْنَهُمَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ بَيْنَهُمَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَالِقُهَا هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ فِي النَّظْمِ وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَصِ تَصْبِيرُ اللَّهِ تَعَالَى مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَفَاهَةِ قَوْمِهِ فَإِنَّهُ إِذَا سَمِعَ أَنَّ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ كَانُوا يُعَامِلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ سَهُلَ تَحَمُّلُ تِلْكَ السَّفَاهَاتِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْعَذَابَ عَلَى الْأُمَمِ السَّالِفَةِ فَعِنْدَ هَذَا قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَيَنْتَقِمُ لَكَ فيها من عدائك وَيُجَازِيكَ وَإِيَّاهُمْ عَلَى حَسَنَاتِكَ وَسَيِّئَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَا خلق السموات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ إِهْمَالُ أَمْرِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا صَبَّرَهُ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ رَغَّبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الصَّفْحِ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَقَالَ:

فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ أَيْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَاحْتَمِلْ مَا تَلْقَى مِنْهُمْ إِعْرَاضًا جَمِيلًا بِحِلْمٍ وَإِغْضَاءٍ، وَقِيلَ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُظْهِرَ الْخُلُقَ الْحَسَنَ وَالْعَفْوَ وَالصَّفْحَ، فَكَيْفَ يَصِيرُ مَنْسُوخًا.

ثم قال: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ مَعَ اخْتِلَافِ طَبَائِعِهِمْ وَتَفَاوُتِ أَحْوَالِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِكَوْنِهِمْ كَذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّمَا خَلَقَهُمْ مَعَ هَذَا التَّفَاوُتِ، وَمَعَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ التَّفَاوُتِ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَلِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ المعتزلة فلأجل المصلحة والحكمة، والله أعلم.

[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٧ الى ٨٨]

وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا صَبَّرَهُ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَصْفَحَ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَذَكَّرَ كَثْرَةَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ سَهُلَ عَلَيْهِ الصَّفْحُ وَالتَّجَاوُزُ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: آتَيْناكَ سَبْعاً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبْعًا مِنَ الْآيَاتِ وَأَنْ يَكُونَ سَبْعًا مِنَ السُّوَرِ وَأَنْ يَكُونَ سَبْعًا مِنَ الْفَوَائِدِ. وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْيِينِ. وَأَمَّا الْمَثَانِي: فَهُوَ صِيغَةُ جَمْعٍ. وَاحِدُهُ مُثَنَّاةٌ، وَالْمُثَنَّاةُ كُلُّ شَيْءٍ يُثَنَّى، أَيْ يُجْعَلُ اثْنَيْنِ مِنْ قَوْلِكَ: ثَنَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا عَطَفْتَهُ أَوْ ضَمَمْتَ إِلَيْهِ آخَرَ، وَمِنْهُ يُقَالُ: لِرُكْبَتَيِ الدَّابَّةِ وَمِرْفَقَيْهَا مَثَانِيَ، لِأَنَّهَا تُثْنَى بِالْفَخِذِ وَالْعَضُدِ، وَمَثَانِي الْوَادِي مَعَاطِفُهُ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي مَفْهُومُهُ سَبْعَةُ أَشْيَاءَ مِنْ جِنْسِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُثَنَّى وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>