وَالَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا الثَّامِنَةُ: (تُكَذِّبَانِ) وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الثَّمَانِيَةُ وَإِلَى قَوْلِهِ: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن: ٢٩، ٣٠] ، يَظْهَرُ لَكَ صِحَّةَ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ بَيَّنَ قُدْرَتَهُ وَعَظَمَتَهُ ثُمَّ يَقُولُ: فَبِأَيِّ تِلْكَ الْآلَاءِ الَّتِي عَدَدْتُهَا أَوَّلًا تُكَذِّبَانِ، وَسَنَذْكُرُ تَمَامَهُ عِنْدَ تلك الآيات. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ١٧ الى ١٨]
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨)
وَفِيهِ وُجُوهٌ أَوَّلُهَا مَشْرِقُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَغْرِبُهُمَا، وَالْبَيَانُ حِينَئِذٍ فِي حُكْمِ إِعَادَةِ مَا سَبَقَ مَعَ زِيَادَةٍ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ [الرحمن: ٥] دَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُمَا مَشْرِقَيْنِ وَمَغْرِبَيْنِ، وَلَمَّا ذكر:
خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرحمن: ٣، ٤] دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ شَيْءٍ فَبَيَّنَ أَنَّهُ الصَّلْصَالُ الثَّانِي:
مَشْرِقُ الشِّتَاءِ وَمَشْرِقُ الصَّيْفِ فَإِنْ قِيلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِصَاصِهِمَا مَعَ أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لِلشَّمْسِ مَشْرِقٌ وَمَغْرِبٌ يُخَالِفُ بَعْضُهَا الْبَعْضَ؟ نَقُولُ: غَايَةُ انْحِطَاطِ الشَّمْسِ فِي الشِّتَاءِ وَغَايَةُ ارْتِفَاعِهَا فِي الصَّيْفِ وَالْإِشَارَةُ إِلَى الطَّرَفَيْنِ تَتَنَاوَلُ مَا بَيْنَهُمَا فَهُوَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ فِي وَصْفِ مَلِكٍ عَظِيمٍ لَهُ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ وَيُفْهَمُ أَنَّ لَهُ مَا بَيْنَهُمَا أَيْضًا الثَّالِثُ: التَّثْنِيَةُ إِشَارَةٌ إِلَى النَّوْعَيْنِ الْحَاصِرَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فَإِنَّهُ يَنْحَصِرُ فِي قِسْمَيْنِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: رَبُّ مَشْرِقِ الشَّمْسِ وَمَشْرِقِ غَيْرِهَا فَهُمَا مَشْرِقَانِ فَتَنَاوَلَ الْكُلَّ، أَوْ يُقَالُ: مَشْرِقُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَا يغرض إِلَيْهِمَا الْعَاقِلُ مِنْ مَشْرِقِ غَيْرِهِمَا فَهُوَ تَثْنِيَةٌ في معنى الجمع. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ١٩ الى ٢١]
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا فَنَقُولُ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ وَهُمَا حَرَكَتَانِ فِي الْفَلَكِ نَاسَبَ ذَلِكَ ذِكْرَ الْبَحْرَيْنِ لِأَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يَجْرِيَانِ فِي الْفَلَكِ كَمَا يَجْرِي الْإِنْسَانُ فِي الْبَحْرِ قَالَ تَعَالَى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: ٣٣] فَذَكَرَ الْبَحْرَيْنِ عَقِيبَ الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ وَلِأَنَّ الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ فِيهِمَا إِشَارَةٌ إِلَى الْبَحْرِ لِانْحِصَارِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، لَكِنَّ الْبَرَّ كَانَ مَذْكُورًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ وَضَعَها [الرَّحْمَنِ: ١٠] فَذَكَرَ هاهنا مَا لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَرَجَ، إِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا كَانَ بِمَعْنَى خَلَطَ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ فَكَيْفَ قَالَ تَعَالَى: مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرحمن: ١٥] وَلَمْ يَقُلْ: مِنْ مَمْرُوجٍ؟ نَقُولُ: مَرَجَ مُتَعَدٍّ وَمَرِجَ بِكَسْرِ الرَّاءِ لَازِمٌ فَالْمَارِجُ وَالْمَرِيجُ مِنْ مَرِجَ يَمْرَجُ كَفَرِحَ يَفْرَحُ، وَالْأَصْلُ فِي فَعَلَ أَنْ يَكُونَ غَرِيزِيًّا وَالْأَصْلُ فِي الْغَرِيزِيِّ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا، وَيَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْغَرِيزِيِّ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: في البحرين وجوه أحدها: بحر السماء وبحر الْأَرْضِ ثَانِيهَا: الْبَحْرُ الْحُلْوُ وَالْبَحْرُ الْمَالِحُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ [فَاطِرٍ: ١٢] وَهُوَ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ مِنَ الْأَوَّلِ ثَالِثُهَا: مَا ذُكِرَ فِي الْمَشْرِقَيْنِ وَفِي قَوْلِهِ: تُكَذِّبانِ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى النَّوْعَيْنِ الْحَاصِرَيْنِ فَدَخَلَ فِيهِ