للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ إِقْدَامَ الْكُفَّارِ عَلَى هَذَا الِالْتِمَاسِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ ذَكَرُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّكَ لَوْ جِئْتَنَا بِقُرْآنٍ آخَرَ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ أَوْ بَدَّلْتَهُ لَآمَنَّا بِكَ، وَغَرَضُهُمْ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ السُّخْرِيَةُ وَالتَّطَيُّرُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا قَالُوهُ عَلَى سَبِيلِ الْجِدِّ، وَذَلِكَ أَيْضًا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ، حَتَّى إِنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ، عَلِمُوا أَنَّهُ كَانَ كَذَّابًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللَّه. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِالْتِمَاسِ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذَمِّ آلِهَتِهِمْ وَالطَّعْنِ فِي طَرَائِقِهِمْ، وَهُمْ كَانُوا يَتَأَذَّوْنَ مِنْهَا، فَالْتَمَسُوا كِتَابًا آخَرَ لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ.

وَثَالِثُهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونُوا قَدْ جَوَّزُوا كَوْنَ هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّه، الْتَمَسُوا مِنْهُ أَنْ يَلْتَمِسَ مِنَ اللَّه نَسْخَ هَذَا الْقُرْآنِ وَتَبْدِيلَهُ بِقُرْآنٍ آخَرَ وَهَذَا الْوَجْهُ أَبْعَدُ الْوُجُوهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا ذَكَرُوا ذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَقُولَ: إِنَّ هَذَا التَّبْدِيلَ غَيْرُ جَائِزٍ مِنِّي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِ فِي أَنَّهُ مُتَوَعَدٌ بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ إِنْ عَصَى. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فُرُوعٌ:

الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلُهُ: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ مَعْنَاهُ: لَا أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا حَكَمَ إِلَّا بِالْوَحْيِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ قَطُّ بِالِاجْتِهَادِ.

الْفَرْعُ الثَّانِي: تَمَسَّكَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: دَلَّ هَذَا النَّصُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ/ وَالسَّلَامُ مَا حَكَمَ إِلَّا با فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ أَنْ لَا يَحْكُمُوا إِلَّا بِمُقْتَضَى النَّصِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوهُ. [الأعراف: ١٥٨] .

الْفَرْعُ الثَّالِثُ: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الْفَتْحِ: ٢] وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْأَحْكَامِ وَالتَّعَبُّدَاتِ لَا فِي تَرْتِيبِ الْعِقَابِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ.

الْفَرْعُ الرَّابِعُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ قَوْلِهِ: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مَشْرُوطٌ بِمَا يَكُونُ وَاقِعًا بِلَا تَوْبَةٍ وَلَا طَاعَةٍ أَعْظَمَ مِنْهَا، وَنَحْنُ نَقُولُ فِيهِ تَخْصِيصٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ لَا يَعْفُوَ عَنْهُ ابْتِدَاءً، لِأَنَّ عِنْدَنَا يجوز من اللَّه تعالى أن يعفو عن أصحاب الكبائر.

[[سورة يونس (١٠) : آية ١٦]]

قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦)

وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ، أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا الْتَمَسُوا مِنْهُ ذَلِكَ الِالْتِمَاسَ، لِأَجْلِ أَنَّهُمُ اتَّهَمُوهُ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِهَذَا الْكِتَابِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِلَاقِ وَالِافْتِعَالِ، لَا عَلَى سَبِيلِ كَوْنِهِ وَحْيًا مِنْ عِنْدِ اللَّه فَلِهَذَا الْمَعْنَى احْتَجَّ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْوَهْمِ بِمَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ كَانُوا قَدْ شَاهَدُوا رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَوَّلِ عُمُرِهِ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَانُوا عَالِمِينَ بِأَحْوَالِهِ وَأَنَّهُ مَا طَالَعَ كِتَابًا وَلَا تَلْمَذَ لِأُسْتَاذٍ وَلَا تَعَلَّمَ مِنْ أَحَدٍ، ثُمَّ بَعْدَ انْقِرَاضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَاءَهُمْ بِهَذَا الْكِتَابِ الْعَظِيمِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى نَفَائِسِ عِلْمِ الْأُصُولِ، وَدَقَائِقِ عِلْمِ الْأَحْكَامِ، وَلَطَائِفِ عِلْمِ الْأَخْلَاقِ، وَأَسْرَارِ قَصَصِ الْأَوَّلِينَ وَعَجَزَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ الْعُلَمَاءُ وَالْفُصَحَاءُ وَالْبُلَغَاءُ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ عَقْلٌ سَلِيمٌ فَإِنَّهُ يَعْرِفُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا

<<  <  ج: ص:  >  >>