والأسود بن عبد يغوث، والحرث بْنُ حَنْظَلَةَ، فَقَتَلَ اللَّه كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِطَرِيقٍ آخَرَ، كَمَا قَالَ: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الْحِجْرِ: ٩٥] فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُمْ كُلَّمَا تُلِيَ عَلَيْهِمْ آيَاتٌ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ وَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ وَصْفَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَ اللَّه أُرِيدَ بِهِ كَوْنُهُمْ مُكَذِّبِينَ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، مُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، ثُمَّ فِي تَقْرِيرِ حُسْنِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَصَمُّ: لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا أَيْ لَا يَرْجُونَ فِي لِقَائِنَا خَيْرًا عَلَى طَاعَةٍ، فَهُمْ مِنَ السَّيِّئَاتِ أَبْعَدُ أَنْ يَخَافُوهَا. الثَّانِي: قَالَ الْقَاضِي: الرَّجَاءُ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْمَنَافِعِ، لَكِنَّهُ قَدْ يَدُلُّ عَلَى الْمَضَارِّ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ مَنْ لَا يَرْجُو لِقَاءَ مَا وَعَدَ رَبُّهُ مِنَ الثَّوَابِ، وَهُوَ الْقَصْدُ بِالتَّكْلِيفِ، لَا يَخَافُ أَيْضًا مَا يُوعِدُهُ بِهِ مِنَ الْعِقَابِ، فَصَارَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ جَحْدِهِمْ لِلْبَعْثِ وَالنُّشُورِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الْقَاضِي قَرِيبٌ مِنْ كَلَامِ الْأَصَمِّ، إِلَّا أَنَّ الْبَيَانَ التَّامَّ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ رَاجِيًا ثَوَابَ اللَّه وَخَائِفًا مِنْ عِقَابِهِ، وَعَدَمُ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَلْزُومِ، فَلَزِمَ مِنْ نَفْيِ الرَّجَاءِ نَفْيُ الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ فَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي حُسْنِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدَ أَمْرَيْنِ عَلَى الْبَدَلِ: فَالْأَوَّلُ: أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُبَدِّلَ هَذَا الْقُرْآنَ وَفِيهِ إِشْكَالٌ، لِأَنَّهُ إِذَا بَدَّلَ هَذَا الْقُرْآنَ بِغَيْرِهِ، فَقَدْ أَتَى بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا وَاحِدًا. وَأَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ عَيْنُ الْآخَرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اقْتَصَرَ فِي الْجَوَابِ عَلَى نَفْيِ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ هُوَ نَفْسُ الْآخَرِ، كَانَ إِلْقَاءُ اللَّفْظِ عَلَى التَّرْدِيدِ وَالتَّخْيِيرِ فِيهِ بَاطِلًا.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ غَيْرُ الْآخَرِ، فَالْإِتْيَانُ بِكِتَابٍ آخَرَ، لَا عَلَى تَرْتِيبِ هَذَا الْقُرْآنَ وَلَا عَلَى نَظْمِهِ، يَكُونُ إِتْيَانًا بِقُرْآنٍ آخَرَ، وَأَمَّا إِذَا أَتَى بِهَذَا الْقُرْآنِ إِلَّا أَنَّهُ وَضَعَ مَكَانَ ذَمِّ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ مَدْحَهَا، وَمَكَانَ آيَةِ رَحْمَةٍ آيَةَ عَذَابٍ، كَانَ هَذَا تَبْدِيلًا، أَوْ نَقُولُ: الْإِتْيَانُ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا هُوَ أَنْ/ يَأْتِيَهُمْ بِكِتَابٍ آخَرَ سِوَى هَذَا الْكِتَابِ مَعَ كَوْنِ هَذَا الْكِتَابِ بَاقِيًا بِحَالِهِ، وَالتَّبْدِيلُ هُوَ أَنْ يُغَيِّرَ هَذَا الْكِتَابَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ اكْتَفَى فِي الْجَوَابِ عَلَى نَفْيِ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ.
قُلْنَا: الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ عَنْ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ هُوَ عَيْنُ الْجَوَابِ عَنِ الْقِسْمِ الثَّانِي وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقَعَ الِاكْتِفَاءُ بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا عَنْ ذِكْرِ الثَّانِي. وَإِنَّمَا قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ عَيْنُ الْجَوَابِ عَنِ الثَّانِي لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ وَارِدٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى وَلَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ، كَمَا لَا يَقْدِرُ سَائِرُ الْعَرَبِ عَلَى مِثْلِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ مُتَقَرِّرًا فِي نُفُوسِهِمْ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ من تحديد لَهُمْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ، فَقَدْ دَلَّهُمْ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا. وَالثَّانِي: أَنَّ التَّبْدِيلَ أَقْرَبُ إِلَى الْإِمْكَانِ مِنَ الْمَجِيءِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ، فَجَوَابُهُ عَنِ الْأَسْهَلِ يَكُونُ جَوَابًا عَنِ الْأَصْعَبِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِتْيَانِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ وَبَيْنَ تَبْدِيلِ هَذَا الْقُرْآنِ، وَجَعَلَ قَوْلَهُ: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ جَوَابًا عَنِ الْأَمْرَيْنِ، إِلَّا أَنَّهُ ضَعِيفٌ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute