للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الْبَقَرَةِ: ١٩٧] وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ «١» وما تفعلوا من خير تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ «٢» وَأَمَّا أَبُو عَمْرٍو فَالْمَنْقُولُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ بِالْقِرَاءَتَيْنِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَلَنْ تكفروه أَيْ لَنْ تُمْنَعُوا ثَوَابَهُ وَجَزَاءَهُ وَإِنَّمَا سُمِّيَ منع الجزاء كفر لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى إِيصَالَ الثَّوَابِ شُكْرًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ [الْبَقَرَةِ: ١٥٨] وَقَالَ: فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الْإِسْرَاءِ: ١٩] فَلَمَّا سَمَّى إِيصَالَ الْجَزَاءِ شُكْرًا سَمَّى مَنْعَهُ كُفْرًا وَالثَّانِي: أَنَّ الْكُفْرَ فِي اللُّغَةِ هُوَ السَّتْرُ فَسُمِّيَ مَنْعُ الْجَزَاءِ كُفْرًا، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَحْدِ وَالسَّتْرِ.

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ: فلن تكفروه فَعَدَّاهُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ مَعَ أَنَّ شَكَرَ وَكَفَرَ لَا يَتَعَدَّيَانِ إِلَّا إِلَى وَاحِدٍ يُقَالُ شَكَرَ النِّعْمَةَ وَكَفَرَهَا.

قُلْنَا: لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى الْكُفْرِ هَاهُنَا هُوَ الْمَنْعُ وَالْحِرْمَانُ، فَكَانَ كَأَنَّهُ قَالَ: فَلَنْ تُحْرَمُوهُ، وَلَنْ/ تُمْنَعُوا جَزَاءَهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْمُوَازَنَةِ مِنَ الذَّاهِبِينَ إِلَى الْإِحْبَاطِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: صَرِيحُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُصُولِ أَثَرِ فِعْلِ الْعَبْدِ إِلَيْهِ، فَلَوِ انْحَبَطَ وَلَمْ يَنْحَبِطْ مِنَ الْمُحْبَطِ بِمِقْدَارِهِ شَيْءٌ لَبَطَلَ مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: ٧، ٨] .

ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ عَدَمِ الْحِرْمَانِ وَالْجَزَاءِ أَقَامَ مَا يَجْرِي مَجْرَى الدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ عَدَمَ إِيصَالِ الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلسَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ وَذَلِكَ مُحَالٌ فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ عَلِيمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْعَجْزِ وَالْبُخْلِ وَالْحَاجَةِ وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ إِلَهُ جَمِيعِ الْمُحْدَثَاتِ، فَاسْمُ اللَّهِ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْعَجْزِ وَالْبُخْلِ وَالْحَاجَةِ، وَقَوْلُهُ عَلِيمٌ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْجَهْلِ، وَإِذَا انْتَفَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ امْتَنَعَ الْمَنْعُ مِنَ الْجَزَاءِ، لِأَنَّ مَنْعَ الْحَقِّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، إِنَّمَا قَالَ: عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ مَعَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِالْكُلِّ بِشَارَةً لِلْمُتَّقِينَ بِجَزِيلِ الثَّوَابِ وَدَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ لَا يَفُوزُ عِنْدَهُ إِلَّا أَهْلُ التقوى.

[[سورة آل عمران (٣) : آية ١١٦]]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَرَّةً أَحْوَالَ الْكَافِرِينَ فِي كَيْفِيَّةِ الْعِقَابِ، وَأُخْرَى أَحْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الثَّوَابِ جَامِعًا بَيْنَ الزَّجْرِ وَالتَّرْغِيبِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَلَمَّا وَصَفَ مَنْ آمَنَ مِنَ الْكُفَّارِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ أَتْبَعَهُ تَعَالَى بِوَعِيدِ الْكُفَّارِ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ بَعْضُ الْكُفَّارِ ثُمَّ القائلون بهذا القول ذكروا وجوهاًأحدها: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَقْصُودَ رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ فِي مُعَانَدَةِ الرَّسُولِ مَا كَانَ إِلَّا الْمَالَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا [الْبَقَرَةِ: ٤١] وَثَانِيهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، فَإِنَّ أَبَا جَهْلٍ كَانَ كَثِيرَ الِافْتِخَارِ بِمَالِهِ وَلِهَذَا السَّبَبِ نَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ


(١) ليست هذه آية إنما المثبت في المصحف وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٢] .
(٢) ليست هذه آية إنما المثبت في المصحف وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة: ١١٠] . [.....]