للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السَّيِّئَةَ

[المؤمنون: ٩٦] أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّفْضِيلِ، وَالْمَعْنَى الصَّفْحُ عَنْ إِسَاءَتِهِمْ وَمُقَابَلَتُهَا بِمَا أَمْكَنَ مِنَ الْإِحْسَانِ، حَتَّى إِذَا اجْتَمَعَ الصَّفْحُ وَالْإِحْسَانُ وَبَذْلَ الطَّاقَةِ فِيهِ كَانَتْ حَسَنَةً مُضَاعَفَةً بِإِزَاءِ السَّيِّئَةِ. وَقِيلَ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَقِيلَ مُحْكَمَةٌ، لِأَنَّ الْمُدَارَاةَ مَحْثُوثٌ عَلَيْهَا مَا لَمْ تُؤَدِّ إِلَى نُقْصَانِ دين أو مروءة.

[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩٧ الى ١٠٠]

وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَدَّبَ رَسُولَهُ بِقَوْلِهِ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [المؤمنون: ٩٦] أَتْبَعَهُ بِمَا بِهِ يَقْوَى عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الِاسْتِعَاذَةُ باللَّه مِنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَالْهَمَزَاتُ جَمْعُ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ الدَّفْعُ وَالتَّحْرِيكُ الشَّدِيدُ، وَهُوَ كَالْهَزِّ وَالْأَزِّ، وَمِنْهُ مِهْمَازُ الرَّائِضِ، وَهَمَزَاتُهُ هُوَ كَيْدُهُ بِالْوَسْوَسَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ فِي الرَّسُولِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِالْوَسْوَسَةِ وَالْآخَرُ بِأَنْ/ يَبْعَثَ أَعْدَاءَهُ عَلَى إِيذَائِهِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَكِيدُهُمْ بِهَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ يَنْقَطِعُ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَيَسْأَلُهُ أَنْ يُعِيذَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَذَكِّرًا مُتَيَقِّظًا فِيمَا يَأْتِي وَيَذَرُ، فَيَكُونُ نَفْسُ هَذَا الِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّه تَعَالَى دَاعِيَةً إِلَى التَّمَسُّكِ بِالطَّاعَةِ وَزَاجِرًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ،

قَالَ الْحَسَنُ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ بَعْدَ اسْتِفْتَاحِ الصَّلَاةِ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه ثَلَاثًا، اللَّه أَكْبَرُ ثَلَاثًا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ هَمْزِهِ وَنَفْثِهِ وَنَفْخِهِ، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّه وَمَا هَمْزُهُ؟ قَالَ الْمَوْتَةُ الَّتِي تَأْخُذُ ابْنَ آدَمَ- أَيْ الْجُنُونُ الَّذِي يَأْخُذُ ابْنَ آدَمَ- قِيلَ فَمَا نَفْثُهُ؟ قَالَ الشِّعْرُ قِيلَ فَمَا نَفْخُهُ؟ قَالَ الْكِبْرُ.

وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْضُرُونِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِكَيْ يَكُونَ مُتَذَكِّرًا فَيَقِلَّ سَهْوُهُ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ اسْتَعَاذَ باللَّه مِنْ نَفْسِ حُضُورِهِمْ لِأَنَّهُ الدَّاعِي إِلَى وَسْوَسَتِهِمْ كَمَا يَقُولُ الْمَرْءُ أَعُوذُ باللَّه مِنْ خُصُومَتِكَ بَلْ أَعُوذُ باللَّه مِنْ لِقَائِكَ،

وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدِ اشْتَكَى إِلَيْهِ رَجُلٌ أَرَقًا يَجِدُهُ فَقَالَ: «إِذَا أَرَدْتَ النَّوْمَ فَقُلْ أَعُوذُ باللَّه وَبِكَلِمَاتِ اللَّه التَّامَّاتِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَمِنْ شَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ» .

أَمَّا قَوْلُهُ: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» حتى متعلق بيصفون أَيْ لَا يَزَالُونَ عَلَى سُوءِ الذِّكْرِ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ وَالْآيَةُ فَاصِلَةٌ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَاضِ وَالتَّأْكِيدُ لِلْإِغْضَاءِ عَنْهُمْ مُسْتَعِينًا باللَّه عَلَى الشيطان أنه يَسْتَزِلَّهُ عَنِ الْحِلْمِ واللَّه أَعْلَمُ.

المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْكُفَّارِ وَقَالَ الضَّحَّاكُ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فقال من لم يترك وَلَمْ يَحُجَّ سَأَلَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَقَالَ وَاحِدٌ إِنَّمَا يَسْأَلُ ذَلِكَ الْكُفَّارُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكَ بِهِ قُرْآنًا وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ [الْمُنَافِقُونَ: ١٠]

قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا

<<  <  ج: ص:  >  >>