غَفُورٌ رَحِيمٌ
يَعْنِي يَغْفِرُ لَهُمْ أَكْلَ الْمُحَرَّمِ عند ما اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِهِ، وَرَحِيمٌ بِعِبَادِهِ حَيْثُ أَحَلَّ لَهُمْ ذَلِكَ الْمُحَرَّمَ عِنْدَ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى أَكْلِهِ.
[[سورة المائدة (٥) : آية ٤]]
يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤)
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَهَذَا أَيْضًا مُتَّصِلٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَآكِلِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي السُّؤَالِ مَعْنَى الْقَوْلِ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ بَعْدَهُ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: يَقُولُونَ لَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ مَاذَا أُحِلَّ لَنَا حِكَايَةً لِمَا قَالُوهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا حِكَايَةً لِكَلَامِهِمْ لَكَانُوا قَدْ قَالُوا مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ، بَلْ إِنَّمَا يَقُولُونَ مَاذَا أُحِلَّ لَنَا، بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ حِكَايَةً لِكَلَامِهِمْ بِعِبَارَتِهِمْ، بَلْ هُوَ بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الْوَاقِعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَاذَا إِنْ جَعَلْتَهُ اسْمًا وَاحِدًا فَهُوَ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ أُحِلَّ وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ (مَا) وَحْدَهَا اسْمًا، وَيَكُونُ خَبَرُهَا (ذَا) وَ (أُحِلَّ) مِنْ صِلَةِ (ذَا) لِأَنَّهُ بِمَعْنَى: مَا الَّذِي أُحِلَّ لَهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُحَرِّمُونَ أَشْيَاءَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ. فَهُمْ كَانُوا يَحْكُمُونَ بِكَوْنِهَا طَيِّبَةً إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ أَكْلَهَا لِشُبُهَاتٍ ضَعِيفَةٍ، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ مَا يُسْتَطَابُ فَهُوَ حَلَالٌ، وَأَكَّدَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ/ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الْأَعْرَافِ: ٣٢] وَبِقَوْلِهِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الْأَعْرَافِ: ١٥٧] .
وَاعْلَمْ أَنَّ الطَّيِّبَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمُسْتَلَذُّ، وَالْحَلَالُ الْمَأْذُونُ فِيهِ يُسَمَّى أَيْضًا طَيِّبًا تَشْبِيهًا بِمَا هُوَ مُسْتَلَذٌّ، لِأَنَّهُمَا اجْتَمَعَا فِي انْتِفَاءِ الْمَضَرَّةِ، فَلَا يُمْكِنُ أن يكون المراد بالطيبات هاهنا الْمُحَلَّلَاتِ، وَإِلَّا لَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ:
قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الْمُحَلَّلَاتُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا رَكِيكٌ، فَوَجَبَ حَمْلُ الطَّيِّبَاتِ عَلَى الْمُسْتَلَذِّ الْمُشْتَهَى، فَصَارَ التَّقْدِيرُ:
أُحِلَّ لَكُمْ كُلُّ مَا يَسْتَلَذُّ وَيُشْتَهَى.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الِاسْتِلْذَاذِ وَالِاسْتِطَابَةِ بِأَهْلِ الْمُرُوءَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ يَسْتَطِيبُونَ أَكْلَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، وَيَتَأَكَّدُ دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً
[الْبَقَرَةِ: ٢٩] فَهَذَا يَقْتَضِي التَّمَكُّنَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِكُلِّ مَا فِي الْأَرْضِ، إِلَّا أَنَّهُ أَدْخَلَ التَّخْصِيصَ فِي ذَلِكَ الْعُمُومِ فَقَالَ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الْأَعْرَافِ: ١٥٧] وَنَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ عَلَى إِبَاحَةِ الْمُسْتَلَذَّاتِ وَالطَّيِّبَاتِ فَصَارَ هَذَا أَصْلًا كَبِيرًا، وَقَانُونًا مَرْجُوعًا إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ، مِنْهَا أَنَّ لَحْمَ الْخَيْلِ مُبَاحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه لَيْسَ بِمُبَاحٍ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ مُسْتَلَذٌّ مُسْتَطَابٌ، وَالْعِلْمُ بِهِ ضَرُورِيٌّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا لِقَوْلِهِ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَمِنْهَا أَنَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه مُبَاحٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَرَامٌ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ مُسْتَطَابٌ مُسْتَلَذٌّ، فَوَجَبَ أَنْ يحل