للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُخَلَّدُ فِي النَّارِ لِأَنَّ بِإِيمَانِهِ تُكَفَّرُ سَيِّئَاتُهُ فَلَا يُخَلَّدُ فِي الْعَذَابِ الثَّانِي: الْجَزَاءُ الْأَحْسَنُ المذكور هاهنا غَيْرُ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ بِإِيمَانِهِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِذْ تُكَفَّرُ سَيِّئَاتُهُ وَمَنْ كُفِّرَتْ سَيِّئَاتُهُ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، فَالْجَزَاءُ الْأَحْسَنُ يَكُونُ غَيْرَ الْجَنَّةِ وَهُوَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الرُّؤْيَةَ.

الْأَمْرُ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَسْتُرُ قُبْحَ الذُّنُوبِ فِي الدُّنْيَا فَيَسْتُرُ اللَّهُ عُيُوبَهُ فِي الْأُخْرَى، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ يُحَسِّنُ حَالَ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا فَيَجْزِيهِ اللَّهُ الْجَزَاءَ الْأَحْسَنَ فِي الْعُقْبَى، فَالْإِيمَانُ إِذَنْ لَا يُبْطِلُهُ الْعِصْيَانُ بَلْ هُوَ يَغْلِبُ الْمَعَاصِي وَيَسْتُرُهَا وَيَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى النَّدَمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ يَسْتَدْعِي وُجُودَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى تُكَفَّرَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِأَسْرِهَا مِنْ أَيْنَ يَكُونُ لَهُمْ سَيِّئَةٌ؟ فَنَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَعْدَ الْجَمِيعِ بِأَشْيَاءَ لَا يَسْتَدْعِي وَعْدَ كُلِّ وَاحِدٍ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، مِثَالُهُ: إِذَا قَالَ الْمَلِكُ لِأَهْلِ بَلَدٍ إِذَا أَطَعْتُمُونِي أُكْرِمْ آبَاءَكُمْ وَأَحْتَرِمْ أَبْنَاءَكُمْ وَأُنْعِمْ عَلَيْكُمْ وَأُحْسِنْ/ إِلَيْكُمْ، لَا يَقْتَضِي هَذَا أَنَّهُ يُكْرِمُ آبَاءَ مَنْ تُوُفِّيَ أَبُوهُ، أَوْ يَحْتَرِمُ ابْنَ مَنْ لَمْ يُولَدْ لَهُ وَلَدٌ، بَلْ مَفْهُومُهُ أَنَّهُ يُكْرِمُ أَبَ مَنْ لَهُ أَبٌ، وَيَحْتَرِمُ ابْنَ مَنْ لَهُ ابْنٌ، فَكَذَلِكَ يُكَفِّرُ سَيِّئَةَ مَنْ لَهُ سَيِّئَةٌ الْجَوَابُ الثَّانِي: مَا مِنْ مُكَلِّفٍ إِلَّا وَلَهُ سَيِّئَةٌ أَمَّا غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ فَلِأَنَّ تَرْكَ الْأَفْضَلِ مِنْهُمْ كَالسَّيِّئَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: ٤٣] .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: لَنَجْزِيَنَّهُمْ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ وَثَانِيهِمَا: لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَعْنَاهُ نُقَدِّرُ أَعْمَالَهُمْ أَحْسَنَ مَا تَكُونُ وَنَجْزِيهِمْ عَلَيْهَا لَا أَنَّهُ يُخْتَارُ مِنْهَا أَحْسَنَهَا وَيَجْزِي عَلَيْهِ وَيَتْرُكُ الْبَاقِي، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: مَعْنَاهُ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى:

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام: ١٦٠] وقوله: فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها [النمل: ٨٩] .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: ذَكَرَ حَالَ الْمُسِيءِ مُجْمَلًا بِقَوْلِهِ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا إِشَارَةً إِلَى التَّعْذِيبِ مُجْمَلًا. وَذَكَرَ حَالَ الْمُحْسِنِ مُجْمَلًا بِقَوْلِهِ: وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ وَمُفَصَّلًا بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ أَتَمُّ مِنْ غَضَبِهِ وَفَضْلَهُ أَعَمُّ من عدله.

[[سورة العنكبوت (٢٩) : آية ٨]]

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْأُولَى: مَا وَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا؟ نَقُولُ: لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ حُسْنَ التَّكَالِيفِ وَوُقُوعِهَا، وَبَيَّنَ ثَوَابَ مَنْ حَقَّقَ التَّكَالِيفَ أُصُولَهَا وَفُرُوعَهَا تَحْرِيضًا لِلْمُكَلَّفِ عَلَى الطَّاعَةِ، ذَكَرَ الْمَانِعَ وَمَنَعَهُ مِنْ أَنْ يَخْتَارَ اتِّبَاعَهُ، فَقَالَ الْإِنْسَانُ إِنِ انْقَادَ لِأَحَدٍ يَنْبَغِي أَنْ يَنْقَادَ لِأَبَوَيْهِ، وَمَعَ هَذَا لَوْ أَمَرَاهُ بِالْمَعْصِيَةِ لَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُمَا فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمَا فَلَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ شَيْءٌ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَلَا يَتَّبِعَنَّ أَحَدٌ مَنْ يَأْمُرُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْقِرَاءَةِ قُرِئَ حُسْنًا وَإِحْسَانًا وَحُسْنًا أظهر هاهنا، وَمَنْ قَرَأَ إِحْسَانًا فَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [البقرة: ٨٣] وَالتَّفْسِيرُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَّى الْإِنْسَانَ بِأَنْ يَفْعَلَ مَعَ وَالِدَيْهِ حُسْنَ التَّأَبِّي بِالْفِعْلِ وَالْقَوْلِ، وَنُكِّرَ حُسْنًا لِيَدُلَّ عَلَى الْكَمَالِ، كَمَا يُقَالُ إِنَّ لِزَيْدٍ مَالًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>